•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الجمعة، 24 فبراير 2017

Manchester by the Sea

كتب : عماد العذري

بطولة : كايسي آفلك ، لوكاس هيدجيز ، ميشيل ويليامز
إخراج : كينيث لونرغان (2016)

في تجاربه السينمائية الثلاث صنع كينيث لونرغان أفلاماً عن العائلة وعن العلاقات وعن أقوى الروابط في حياتنا ، تلك التي تشدنا تجاه بعضنا ولا تنفصم حتى لو حاولنا فعل ذلك ، وصنع في عمق ذلك أفلاماً عن الحياة بأفراحها وأحزانها وانتصاراتها اللحظية وخيباتها التي لا تدوم ، وأعتقد أن هذا ما يمنحها جميعاً مذاقاً عالمياً بالمعنى الجغرافي البسيط للعبارة ، تحتاج فقط لتكون (إنساناً) كي تشعر بشخصياته ، تجاربه السينمائية - وهو الكاتب المسرحي في المقام الأول – سينمائيةٌ جداً.

ثالث أفلام لونرغان في 16 عاماً هو مزيجٌ من قتامة فيلمه الثاني وحميمية فيلمه الأول ، أكثر رقةً وأقسى ألماً من كليهما مع رجلٍ يقود الحكاية بدل من إمرأتين في منتصف فيلميه السابقين ، واحدة من الدراميات الأعظم التي شاهدتها في حياتي ، الدراما البيور صعبةٌ جداً في تلقيها بقدر ما هي صعبةٌ جداً في صناعتها ، دائماً ما يراهن صناع السينما على المزيج الذي يخلقونه من أصنافٍ دراميةٍ متنوعة (دراما كوميدية ، دراما رومانسية ، وغيرها) من أجل منح أعمالهم بعض المرونة والجاذبية ، لونرغان يصنع دراما الحياة اليومية النقية غير المهجنة ، فيها الماضي والحاضر والألم والفرحة والإنكسار والمقاومة والأمل وخيبة الأمل تتراقص بتعاقبٍ وتناوبٍ غير محسوس لكنه حيٌ كما الحياة.

في منتصف حكايته هناك لي شاندلر ، موظف صيانة لمجموعةٍ من المباني السكنية في كوينزي بضواحي بوسطن ، يتلقى اتصالاً يعيده إلى بلدته الصغيرة مانشستر باي ذا سي في ماساتشوستس لدفن شقيقه الذي رحل بعد معاناةٍ طويلةٍ من مرضٍ في القلب ، هناك عليه أن يتولى مهمة الدفن ، ويواجه أهل بلدته وزوجته السابقة وماضيه الذي لم يمت وبالتأكيد وصية شقيقه التي لا طاقة له بها.


المشهد الإفتتاحي لهذا العمل جميلٌ إلى الدرجة التي تمنيتُ فيها لو استمر للأبد ! ، منذ اللحظة الأولى شعرت بأنه سيكون أقوى أفلام لونرغان شخصيةً على المستوى البصري ، مشهدٌ فيه الكثير من الجمال لمركب ينطلق بهدوءٍ في رحلة صيدٍ - على أصوات كورال مع مونتاجٍ ذوباني - حاملاً جو ولي وباتريك شاندلر ، يعرض كينيث لونرغان أولاً - ومنذ البداية - صورة العائلة المستقرة قبل الزلزال في رحلةٍ يصفها لي لزوجته ريندي لاحقاً بـ Pure Happiness ، ويعرض ثانياً الثيم البصري للفيلم من خلال عملٍ تصويريٍ ممتاز لجودي لي لايبس يستثمر المساحات حول العنصر (المركب) ومدروج اللون بين زرقة السماء وزرقة المياه والمسافات الموزونة تماماً بين طرفي المركب وطرفي الكادر مستخدماً للتصوير مركباً آخراً يسير بالسرعة ذاتها للحفاظ على تلك المسافة أثناء تنوع الكادرات المختلف على المركب محافظاً على هدوء وثبات انطلاقه ضمن الكادر بالرغم من سرعته الواضحة وبالتالي يرسّخ ثالثاً القيمة الدلالية للمركب كشيءٍ جمع هذه العائلة ومستوى هدوءه في الإنطلاق بها منذ مشهد الإفتتاح وحتى المشهد الختامي كانعكاسٍ لثبات هذه العائلة واستقرارها ، ويؤكد رابعاً على طبيعة الهارموني الذي جمع الشخصيات الثلاث وطبيعة الكيمياء التي جمعت لي بإبن شقيقه باتريك كي نشاهدها لاحقاً عندما تكبر بضعة أعوامٍ أخرى ، يراقص لونرغان المركب ويستدير حوله بذات الثبات بينما الحوار يدور بين لي وباتريك أيام النعيم مستخدماً الـ Foreshadowing عندما يسأل لي إبن شقيقه عن الشخص الذي سيختاره ليفعل كل ما من شأنه أن يجعل العالم مكاناً جميلاً على جزيرةٍ يعيش فيها وحيداً ! ، كينيث لونرغان لا يحتاج سوى مشهدٍ واحدٍ يخطف من خلاله عيون مشاهديه وقلوبهم من خلال الصورة وبعض المشاغبات الحوارية.


عندما تنقلنا المتوالية التالية إلى كوينزي نلتقي جزءًا مختلفاً من الحكاية ، يستخدم لونرغان هذه المرحلة كتأسيسٍ بعيد المدى للشخصية وليس مجرّد تأسيسٍ آنيٍ كما اعتدنا في درامياتٍ من هذا النوع ، لونرغان هنا لا يصنع الحدث كتمهيدٍ للحدث التالي كما يحدث في السيناريوهات التقليدية ، كل مشهدٍ يكتبه سينعكس بطريقةٍ أو بأخرى على مشهدٍ آخر بعيدٍ عنه في تسلسله ، لي الذي نلتقيه في كوينزي شخصيةٌ مختلفةٌ عن تلك التي كانت على القارب ، متعهد صيانةٍ يعيش حياةً متواضعةً في غرفةٍ متواضعةٍ ويقوم بكل تعهدات المباني التي يعمل فيها : التنظيف والسباكة وأعمال الكهرباء وجرف الثلوج من المداخل والتخلص من النفايات ، فظٌ في تعامله مع الساكنين (مع بعض الإفتعال من قبلهم) ، بعيدٌ عن أي تواصلٍ مع الجنس الآخر ، وعلى استعدادٍ لإفتعال شجارٍ في حانة من اللاشيء ، لا نستطيع أن نذهب بعيداً عن ملامح وجهه وهو يراوغ تحرّش إحدى الساكنات أثناء قيامه بعمله أو تحرش فتاةٍ تلتقيه في حانة ، رجلٌ هادئٌ يجلس هناك ، الكأس والموسيقى والوحدة والصمت ، خلال هذه المتوالية يكون من السهل التقاط أن لي رجلٌ يقوم بعمله دون حب : لا لعمله ولا لمستخدمه ولا لسكان الابنية التي يقوم بخدمتها ولا للمحيط الذي يعيش فيه ، ويكون من السهل أيضاً التقاط ان هذا الرجل في كوينزي مختلفٌ عن ذلك الرجل الذي شاهدناه في الافتتاح في مانشستر باي ذا سي ، لا توجد ابتسامةٌ ولا منفذ سعادةٍ ولا فسحة إيجابيةٍ في ملامح هذا الرجل ، طوال مراقبتنا يوميات لي في كوينزي (ثم في مانشستر) يقطع لونرغان (على طريقة ياسوجيرو أوزو أعظم من قدم دراما الحياة اليومية) على لقطةٍ للأبنية الصامتة التي يقوم بخدمتها قبل أن ينقلنا إلى كادراتٍ ضيقةٍ على لي وهو يقوم بعمله داخل تلك الأبنية ، وعندما يعود بعد يومٍ طويلٍ إلى غرفته المتواضعة يبدو إيقاع الدقائق العشرة الماضية قادراً تماماً على خلق شعورٍ بالإستمرارية وأن ما حدث في هذا اليوم الطويل يحدث كل يومٍ في حياة لي ، عشر دقائق ترسم الأبعاد السطحية للشخصية كتمهيدٍ ليصبح ما تبقى حفراً في الأبعاد العميقة لها ، وعندما يتلقى لي في نهايتها اتصاله سنعرف أنه لا ينتمي إلى هذا المكان وأن عليه السفر إلى بلدته مانشستر باي ذا سي التي تبعد عن مكان عمله ساعةً ونصف من أجل حدثٍ طارئ ، هذه المتوالية هي النقيض الصريح جمالياً ودلالياً للمشهد الإفتتاحي للفيلم ، عندما ينتقل لي إلى مانشستر وعلى مدار ما تبقى من الفيلم يسلّم كينيث لونرغان فيلمه لكايسي آفلك وللمونتيرة جينيفر لايم في واحدٍ من أفضل منجزات المونتاج التي شاهدتها العام المنصرم ، رحلة العودة تضعنا في صورة هذا الهارموني الذي سيحدث بين الطرفين ، الإحساس العالي بالزمن أثناء قيادة لي سيارته ، لقطةٌ من داخل السيارة ، موسيقى تصويرية تسير مع الرحلة ، Jump-cuts ، ثم لقطاتٌ خارجيةٌ على الثلج الممتد ، ولقطاتٌ من مقدمة السيارة على لي يسترجع ما حدث ، طوال الفيلم يستثمر كينيث لونرغان الطريق (وعناصر مكانيةً أخرى) ليمهد مسارنا نحو عمق الشخصية بعدما شاهدنا سطحها ، وكأنما هذه الذكريات (الأولى / التأسيسية) هي مدخل علاقته بمدينته مانشستر ، رحلتنا بإتجاه المدينة وفي عمقها توازٍ سردي مع رحلتنا في ذاكرة لي وعمق حكايته.


عندما يصل لي إلى المستشفى في منتصف رحلته نحو البلدة نلتقي بعضاً من سكانها هناك ، طبيبٌ وطبيبةٌ وشريك شقيقه في رحلات الصيد ثم الطبيبة بيثني التي أشرفت على علاجه (في فلاشباك) ، من خلال متوالية المستشفى (العظيمة وغير المقدرة) يولّد كينيث لونرغان إحساساً بصغر البلدة من خلال شكل علاقات الناس داخلها وهو إحساسٌ سيستمر في المشاهد الأخرى عندما نصل مانشستر ، سكان البلدة ربما هم أطباء أو مدرسون أو محامون أو طلاب مدارس لكنهم يعرفون بعضهم جيداً ونلتمس فيهم بسهولة الرسمية شبه المعدومة عندما يصل لي إلى المستشفى ، أجمل ما يفعله كينيث لونرغان على هذا المستوى هو الكاستنغ العظيم الذي يستخدم فيه طاقماً كاملاً من الممثلين غير المعروفين خارج إطار عائلة لي ذاتها ، وكأنما هو يصنعُ بلدةً حقيقية لا نعرف عنها شيئاً ونذهب لإستكشافها فقط من أجل لي الذي غادرها منذ زمن (كايسي أفلك الذي نعرفه) ، أي ممثلٍ معروف في طاقم مدينة مانشستر سيجذب الأضواء ولو قليلاً وقد يحرّك الحكاية وتوقع المشاهد إلى مسارٍ لا يريده ، وهذا خلق نسيجاً مختلفاً في المدينة جعل أولئك الممثلين غير المعروفين يبدون وكأنما هم أهلها فعلاً ، الأطباء في المستشفى ، والمحامي ، وصديق العائلة وعائلته ، ومتعهد الجنازات ، وأصدقاء باتريك ووالدة صديقته ، وزوج طليقته وموظف المدرسة ومدرب الرياضة ، ومتعهدو أعمال الصيانة ، ومحققو الشرطة ، يعود لي إلى عالمٍ لم يعد ينتمي إليه ، لا يعرف حتى أن عمه انتقل إلى مينيسوتا ، وعندما يسأل عن واحدٍ ممن يعرفهم (الدكتور بيثني) يخبره الطبيب أنها أنجبت توأماً وهي في إجازة أمومة ، أناسٌ كانوا يعيشون عندما اختفى لي من حياة مانشستر ، عندما نشاهدهم الآن نرى أناساً عاديين يبدون جزءاً أصيلاً من البلدة لدرجةٍ تشعر بأنهم سيستمرون في حياتهم هناك بعد تصوير الفيلم كما استمروا في حياتهم بعد غياب لي.


في مشهد المستشفى أيضاً يؤكد كينيث لونرغان على شيئين : الأول قدرته على تعزيز (حقيقية) دراما الحياة اليومية النقية غير المهجنة ليس فقط من خلال الحدث البسيط أو الحوارات الأبسط وإنما أيضاً من خلال نبرة الكلام ومستوى الصوت وفواصل التحدث والرد والكلام المتداخل ليخلق شيئاً حقيقياً جداً في مشهد عودة الإبن الضال للبلدة على لحظةٍ أليمةٍ في حياة العائلة تتمثل في وفاة شقيقه الأمر الذي يجعل في نتيجته من (عودة لي) جزءاً دراماتيكياً مهماً بقدر ما هي (وفاة شقيقه) وهو أمرٌ نلمسه في طريقة تعاطي الطبيبين وصديق العائلة مع اللحظة وكمية الود والمواساة واللارسمية التي يحملها تعاملهم معه ، والثاني التأكيد على إستثمار مساحات الإمتداد الزمني لأحداثٍ عادية (القيادة في الطريق / النزول في مصعد / الإنتظار لتسلم حقيبة شقيقه / الإسترخاء قبل النوم) بحيث توظّف من ناحيةٍ كإطارٍ للفلاشباك بما يتناسب مع المسافة التي قطعناها في عمق ذاكرة لي ، وتصوّرُ من ناحيةٍ أخرى صغر عالم مانشستر حيث كل ما سنشاهده جرى في هذا العالم الضيق بوجود هؤلاء الناس العاديين وضمن إطار هذه الأحداث العادية ، عندما كان لي عائداً في طريقه للبلدة كان الفلاشباك يذكرنا فقط بالملامح العامة لذكرياته مع بلدته ، وعندما ينزل رفقة الطبيب في المصعد نحو ثلاجة الموتى يذكرنا الفلاشباك بالدكتور بيثني التي أخبرت شقيقه عن إصابته بالـ CHF والسنوات القليلة المتبقية في حياته ويستذكر أيضاً علاقته غير الودية بزوجة شقيقه ، نص لونرغان لا يثير مشاهديه بقدر ما يتعامل مع ذكريات بطله بالكثير من الجدية لتبدو استثارتها واسترجاعها شيئاً نابعاً من صميم الحدث الذي يمر به لي في لحظة الإستذكار ، وكأنما الحدث هو من يستحضرها وليست هي من تأتي إلينا. في عمق هذا الإستكشاف – الذي يصبح أعظم في مشاهدةٍ ثانية – يفرد لونرغان مساحةً صغيرةً لكنها مشبعة لعلاقة لي بشقيقه جو وهي مساحةٌ غنيةٌ وبالغة التأثير في كل ما يجري ، المشهد الذي يقف فيه لي أمام جسد شقيقه يتأمله في وداعه الأخير يصبح – في مشاهداتٍ تالية - أكثر تأثيراً من شقيقٍ يودع شقيقه ، جو بالنسبة لشقيقه لم يكن مجرد أخٍ أكبر بقدر ما كان صورةً مكتملةً للراعي والسند والصديق الذي لا يتخلى عن صديقه ، كان معه في كل مراحل محنته ورفض التخلي عنه عندما تخلى هو عن نفسه ، مشهده لاحقاً وهو يصر عليه أن يتصل بمجرد وصوله إلى بوسطن أو يصر على باتريك أن يأتي لوداع عمه ، مشهده الآخر وهو يصر على تأثيث غرفة لي الجديدة بعد استقراره في بوسطن ، ثم إصراره – بعد وفاته – على أن يكون لي هو الوصي على ولده باتريك ، أوكل إبنه وأغلى ما يمتلك إلى رجلٍ تسبب في فقدان أبنائه وكأنما هو يصر من خلال ذلك على منح لي بدايةً جديدةً (لأنه يعرف أنني سأرفض) كما يقول لي للمحامي لاحقاً ، في مساحةٍ ضيقةٍ جداً من ظهوره يشعرنا كايل شاندلر (في تشابه أسماءٍ مع الشخصية التي يؤديها) بقيمة جو في حياة لي كي يجعل من محاولة لي الالتزام بوصية شقيقه بالرغم من ثقلها الشديد عليه شيئاً واضحاً وصادقاً ومؤثراً فينا كمتلقّين.

كلما تقدمت الحكاية يبرز بصورةٍ أكبر الدور الذي يلعبه مونتاج جينيفر لايم في خلق التتابع السردي وهو يصلنا أولاً بأول من منظور لي شاندلر ، على مدار هذه الأيام التي نقضيها مع لي يستخدم تقطيعاً متكرراً على الشوارع والثلج والبحر مع صوت الكورال لتخلق حس إستعادة مانشستر في روح لي وهو يقترب منها وكيف يتغير ذلك وهو يدخلها ثم يتجوّل فيها ثم يبدأ مهمته ثم يستعيد ذكرياته ، هذا هو أقوى منجزات المونتاج التي شاهدتها في 2016 تأثيراً في عملية السرد ذاتها وليس فقط في القيمة الجمالية للصورة أو التدفقية للحدث ، في مرحلةٍ ما تشعر بأن هذا العمل تم تصميمه كقطعةٍ واحدةٍ بكل التناغم الذي يتحقق بين الصوت والصورة وبين الشخصيات والأداءات وبين المكان والزمان ، عندما يستذكر لي أثناء دخوله مانشستر رحلة الصيد التي ذهبها مع شقيقه وإبنه (في افتتاح الفيلم) يخبر لي باتريك عن الجزر الصغيرة المحيطة بهم قبل أن يتهكم على جزيرة ميزري التي تزوج فيها من ريندي ، من الفلاشباك إلى فلاشباكٍ آخر لنلتقي ريندي في اللحظة التي يدخل فيها لي فعلاً إلى البلدة ! ، ريندي بقدر ما هي زوجةٌ محبة هي أيضاً زوجةٌ تواجه لا جدية زوجها بالكثير من الجدية ، تكاد تعترض على أي شيءٍ يفعله ولسانها الثرثار لا يتوقف عن مقارعته وهو يجيد تماماً التعامل معها بحبٍ يغمرها كما يغمر أبناءه ، في هذه المرحلة يدرك المشاهد أن لي الموجود في الفلاشباك (مع زوجته وأبناءه) هو حتماً ليس لي الذي يسترجع هذه الذكريات ، القصة تتكشف بسلاسة في نص كينيث لونرغان مخدومةً بتقطيعٍ عظيم من جينيفر لايم ولغة جسدٍ معبرة من كايسي آفلك .


على صعيد هذا (التكشّف) يأتي واحدٌ من أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها بلاغةً في ملعب هوكي الجليد حيث يتدرب باتريك ورفاقه في المدرسة ، ثوانٍ معدودة كي نتعرف إلى باتريك ونعرف أنه كبر ليصبح امتداداً لذات الفتى الذي شاهدناه في البداية مع بعض الهرمونات الذكورية ، يشغلنا كينيث لونرغان لثوانٍ بباتريك (في يسار الملعب) ثم يظهر لي (في يمين الملعب) ، في لحظة ظهوره تكثيف ممتاز لروح هذا الفيلم ، ننشغل نحن كمشاهدين بباتريك بينما ينشغل اللاعبون وباتريك بعمه الموجود في الطرف الآخر ، الظهور يوجهنا (نحن) في اتجاه معرفة رد فعل باتريك تجاه وفاة والده ، لكن الظهور يوجههم (هم) في اتجاه الحديث عن لي (أو THE Lee Chandler كما يصفه المدرب أو كما سمعنا قبل قليل من موظفي المدرسة) ، في لحظة يصبح ظهور لي في البلدة (ونحن لا نعرف شيئاً عن ماضيه) في مستوى وقيمة الخبر الذي يحمله (وهو خبر وفاة)! ، انتقال باتريك من الضفة اليسرى للملعب إلى الضفة اليمنى حيث يقف عمه هو الإنعكاس البصري لمساري الكشف في المشهد وكأن للخبرين ذات الأهمية : على اليمين خبر وفاة جو ، وعلى اليسار خبر ظهور لي ، ثم ينتقل الرفاق والمدرب إلى ضفة باتريك لمعرفة الخبر ومواساته.


في غمرة الخبرين معاً يؤكد كينيث لونرغان – في واحدة من أعمق تجلياته في الفيلم – على قيمة الحياة واستمراريتها وحقيقيتها من خلال تفصيلين صغيرين ستساندهم تفاصيل أخرى على مسار الحكاية ، لونرغان يؤمن في جميع افلامه بأن الدراما في السينما هدفها في الأساس (تكثيف) حقيقية الحياة في شريطٍ معروضٍ من ساعتين وليس (تنقية) الحياة من المسارات التي لا تغذي الحدث ، فلسفة لونرغان في تكثيف الحياة كقالبٍ حقيقيٍ لأي دراما يجعل من أعماله مجردةً من اللون الواحد والمود الواحد والإنطباع الواحد ، هارموني غريب من الدراما والكوميديا والجد والهزل والفعل المؤثر والأفعال الهامشية ، في ذروة توقنا لمعرفة الشيء القليل عن لي من حديث زملاء باتريك في الملعب ينبههم مدربهم (الفضولي مثلنا) لمراقبة ألفاظهم ! ، عندما يذهب المدرب ليواسي باتريك يعود لطلابه ليخبرهم بإنتهاء الاستراحة وطالباً أن يستمروا في اللعب !، تفاصيل صغيرةٌ على هامش حدثٍ كبير تغذي الصورة الأكبر لـ (الحياة التي تستمر) ، هذه التفاصيل بدأها لونرغان باكراً من خلال أحاديث الناس الهامشية والحوارات التي لا تهمنا عندما نلتقي سكان الأبنية التي يعمل فيها لي مطلع الفيلم ، ثم تتوالى بعد ذلك بذكاء في مراحلٍ متفرقةٍ من الحدث : أثناء محاولة لي الوصول إلى باتريك في المدرسة تكون إشارة الهاتف متقطعةً أثناء اتصاله فيعيد الكلام أكثر من مرة !، عندما يصل لي مع باتريك إلى المستشفى يخطئ باتريك في التعبير أثناء نزوله من السيارة فينطلق عمه بها ويكاد يؤذيه !، عندما يأتي زملاء باتريك للترفيه عنه ومواساته نغيب عنهم قليلاً لنعود وقد تحوّل حديثهم نحو Star Trek !، والدة باتريك تصرخ Oh my god بمجرد سماعها اسم مرض زوجها دون أن تعرف ماهية المرض !، في الذروة العظيمة المؤثرة للفيلم لا ينجح موظفو الإسعاف أكثر من مرة في وضع نقالة ريندي في السيارة ، في ذروة بحثهم عن متعهد جنازات في بلدةٍ قريبة ينسى لي أين أوقف سيارته ، وفي ذروة بحثه عنها في الطقس البارد يسأل باتريك لماذا يرتدي قفازاتٍ مفتوحة ! ، في حين يعلّق باتريك على كئابة متعهد الجنازات على هامش جنازة والده ! ، يقحم لونرغان نفسه في مشهدٍ عابرٍ - كما فعل في فيلميه السابقين للتعبير عن رأي (الآخر) في الحدث - معلقاً على علاقة لي بباتريك من خلال عبارة Good parenting ! ، ثم لا يكترث في قداس جو للمود العاطفي الذي يضع مشاهده فيه من خلال أصوات الكورال والسلوموشن فنرى نظرة مطوّلةً من لي لزوج طليقته !، في القداس أيضاً يرن هاتف باتريك لفترةٍ طويلة بينما هو يحاول إخراجه من جيبه ! ، وفي عزاء جو يطغى الهزل على سؤال لي فيما إذا كان قد تناول طعاماً أم لا !، وفي ذروة محاولة لي التخفيف عن باتريك يرفض طلبه بمجيء صديقته إلى المنزل ونفهم – دون أن يخبرنا – أنه ردٌ ضمنيٌ على إنتقادها إياه لحديثه على الهاتف عن جثة جو أمام باتريك ! ، وفي ذروة مراسم دفن جو يبكي إبن ريندي ويعجزون عن اسكاته !، ونرى نظرةً – يمكننا أن نفهمها – من لي بإتجاه ريندي وطفلها !، لونرغان ينتصر للحياة بكل موزاييكها ، ينتصر للأشياء الصغيرة التي تحدث أثناء إنشغالنا بالأشياء الكبيرة ، الأشياء التي تصنع للحياة معنى وتنجو بها من أن تكون خطاً واحداً دون التواءات أو لوناً ثابتاً يطغى على صورة ، والعظيم في هذا السياق أنه لا يوجد تفصيلٌ من تلك التفاصيل (الغريبة على محيطها الدرامي) يبدو مفتعلاً أو دخيلاً أو قادراً على إخراجنا من المود العام لما يجري .


يستخدم لونرغان أيضاً (الإضافة من خلال الحذف) مغذياً في مشاهده ما يعرفه هو عن لي دون أن يخبره إياه ، نلتقط بسهولة أن هناك حاجزاً ما لدى هذه الشخصية يُفهم من تلقي الأهالي لحضورها ويبدو حاجزاً يجعلها في نظرهم شخصيةً سلبية ، عملية الإضافة من خلال الحذف هذه تمهدك للإصطدام بدراجة ، لكن متوالية الوصية تدهسك كقطار ! ، في هذه المتوالية التي تستمر 15 دقيقةً بين دخول لي وباتريك إلى مكتب المحامي وحتى مغادرتهم منه يصل كينيث لونرغان إلى الذروة العاطفية لفيلمه والذروة العاطفية لعام 2016 كله برأيي ، فيلمٌ قصيرٌ متعدد الأبعاد يعرض فيه لونرغان أولاً وقبل كل شيء القيمة الجوهرية لشخصية جو في الحكاية كما سيفعل في مشاهد أخرى ، جو رسم كل ملامح الخطة المستقبلية لهذه الرعاية ، المكان والنفقات وتكاليف الإنتقال ، دوافعه متروكةٌ للمشاهد وحده ليفهمها ، ربما رغبةٌ دفينةٌ في إعادة إحياء روح شقيقه في بلدته الأم ، أو رغبةٌ في إعادة روح العائلة بين إبنه وعمه ، أو رغبةٌ في تعويض شقيقه عن أبناء لم تسنح له الفرصة ليشاهدهم يكبرون أمام عينيه ، أو رغبةٌ في تعويض باتريك عن والدٍ فقده من خلال أكثر الناس قرباً من والده ، حقيقةٌ لا تقال لكننا ندركها ونلتقطها من تفاصيل الوصية التي لم يكن لي يعرف عنها شيئاً ، في هذه التطور تحديداً – كعادة كل الفلاشباكات في الفيلم – يجد لونرغان المساحة المناسبة لكشف الحاجز العميق بين لي وكل تفصيلٍ محتمل في مبررات جو لمنح الوصاية على إبنه إلى عمه ، هنا تحديداً يصبح من حق المشاهد أن يعرف لماذا تبدو وصيةٌ مكتملةٌ ومؤمّنةٌ ومثاليةٌ كهذه شيئاً ثقيلاً على لي ، المشاهد بين بداية المتوالية ونهايتها (يستفيق) بالمعنى الحرفي للكلمة ، ينتقل بين وعيين كما يحدث بين النوم واليقظة ، وعي عرف فيه لي قبل هذه المتوالية ، ووعي آخر سينظر به تجاهه بعد هذه المتوالية ، مفهوم الإستفاقة ستترجمه جينيفر لايم مونتاجياً بطريقةٍ حرفيةٍ يتدرج فيها إنتقالنا بين الوعيين بطريقةٍ تشابه استيقاظ المرء من نومه ، ومضةٌ قويةٌ على لي والرفاق في سهرةٍ مجنونةٍ تعترضها ريندي مرتين ، ثم عودة إلى الوعي الآخر لنتأمل لغة جسد لي في مكتب المحامي ، ثم تتراقص ومضات الإستفاقة بصرياً مع هارموني عبقري لشريط صوتٍ يتضمن هاندل والبينوني بالإضافة إلى المقطوعات الأصلية لليزلي باربر ، ما يحدث هنا ليس مجرد براعةٍ في اختيار المقطوعات الموسيقية المرافقة للصورة بل العكس ، لايم وكأنما تضع أديجو ألبينوني أولاً ثم تقطع الحادثة بصرياً بما يتسق معها ، طول كل لقطة يراقص الموسيقى التي ترافقها ، عندما تطول النوتة تسير الكاميرا عرضاً مع الحشود حتى تصل إلى وجه لي المذهول ، عندما تدخل النوتة مساحتها الأكثر حزناً ينتشل المنقذون جثث فتياته ، وعندما يتغير ايقاعها ينهار لي ويعجز عن الوقوف ، هذه العظمة البصرية / الصوتية تتعزز من خلال أدائين فعّالين من ميشيل ويليامز وكايسي آفلك ، هناك شكلان محتملان لمواجهة فاجعةٍ كهذه ، الإنهيار والصراخ والألم الذي يعتصر كل شيء عند إدراك ما جرى (كما يحدث مع ريندي) ، أو الحاجة لوقتٍ أطول بالنسبة لشخصٍ أفرط في الشراب وتعاطى الكوكائين في ليلةٍ مجنونة قبل أن يستفيق تدريجياً عندما لم يعد للبكاء معنى (كما حدث مع لي) وهي استفاقةٌ تتوافق بصرياً أيضاً مع طلوع الفجر في المشهد حيث اكتملت عمليات المسعفين على رحيل كل شيء ، هنا يكون لونرغان قد وضع مشاهده رهينة الألم والإنسحاق العاطفي الذي لا يحتمله ناهيك عن أن يحتمله لي نفسه ، هناك قدرٌ عالٍ من الإنفعال بالمشهد ، من السهولة جداً تفهمه وتلقيه وتخيل ألم مرورك به ، والمتوالية تكتمل أيضاً - من خلال الفلاشباك بين نهوض لي لمغادرة مكتب المحامي ومغادرته فعلاً - على صورة لي يجلس في غرفة التحقيق ، يستخدم لونرغان منظوري رؤية ، الأول بلقطةٍ ثابتةٍ على المحققين (وهم هنا إكتمالٌ لبقية الشخصيات الأخرى التي تشكل نسيج البلدة الحميمي التي يعرف سكانها بعضهم ويقدرون ما يجري لبعضهم) والثاني بزوم إن ناعم جداً على وجه لي يكشف حكايته فنقترب منه بصرياً بالتوازي مع اقترابنا من الحقائق التي يحكيها ، الحالة التي نعيشها ونحن نراقب رجلاً مستفيقاً دمّر كل حياته للتو وهو يستذكر تفاصيل الليلة التي لن ينساها ، العبث وهو يستذكر أنه في مرحلةٍ ما من طريقه للمتجر لم يكن متأكداً هل وضع غطاء الموقد أم لا ، والألم أمام حقيقة أن كل حياتك انتهت في لحظةٍ عابرةٍ كتلك أو لسبب تافهٍ كذاك ، ألم ثقيلٌ يعصف بكل شيءٍ ويجعل من فكرة اطلاق سراحه أمراً عبثياً بالنسبة له ، توقه للعقاب هنا – حتى في صورة محاولة انتحار يرجوهم أن يسمحوا له بإكمالها – هو التفسير الختامي وليس الوحيد لماذا يعيش لي الآن على هذا النحو الذي رأيناه ، هنا – مجدداً – يعود لونرغان إلى إستعارته الأولى منتقلاً من صورة (المركب) المستنفر والجو الملبد منتصف هذه المتوالية ، إلى المركب الذي تعصف به الرياح بعد هذا المتوالية ، يثور البحر ، وتتوقف النوارس عن الحركة رغم تحليقها.


عندما ينتهي كل شيءٍ بعد هذه المتوالية يستكمل لونرغان عمله على (الإضافة من خلال الحذف) فيقفز على علاقة لي بريندي بعد الكارثة متجاوزاً فكرة التعامل مع الفقد آنياً وشكل العلاقة التي ستربط زوجةً بزوجها بعدما دمّر حياتهما ، يؤكد على أننا نتلقى الحدث من خلال ذاكرة لي التي تبدو تلك مساحةً محذوفةً من ذاكرته وهي ربما أسوأ ما عاشه فيتركها لخيال مشاهديه وهذا فعالٌ جداً لأنه يخفف كثيراً من حدية تعاملنا مع ريندي التي هي ذاتها تشعر بالذنب تجاه ما قالته عن لي ، ومن ناحية يجعل من لقائهما المؤثر في النصف الثاني من الفيلم مفصلاً حميمياً في الحكاية ، ريندي (التي تؤديها ميشيل ويليامز في حضورٍ لا نبتعد بأعيننا عنه عندما يكون في الكادر) عاشت ذات المعاناة التي عاشها لي (بالرغم من أنه هو نصيرنا في الحكاية) ألم فقدها لا يختزله صراخها الذي يملأ الأرجاء بينما منزلها يلتهم أبنائها ، لا تحتاج فقط سوى لمشاهدة ذلك الألم في صراخها أو ردات فعلها عندما يقترب منها لي على نقالة الإسعاف لتعرف كيف كانت علاقتهما في السنوات التالية ، صوت ويليامز على الهاتف وتعابير وجه آفلك وهو يتلقى اتصالها يحكيان كل شيء ، هنا شخصان يحبان بعضهما فعلاً حتى هذه اللحظة لكنهما بطريقةٍ ما تسببا بألمٍ بالغٍ لبعضهما ، ويليامز تؤدي هنا دورين منفصلين تماماً ، دور المرأة الجادة عالية الصوت التي تواجه استهتار زوجه وبالتأكيد تحبه ، ودور امرأةٍ ماتت كما مات زوجها لكنها عادت للحياة في شكلٍ جديد ومن خلال حياةٍ جديدةٍ تزوجت فيها وأنجبت ، والدور الثاني بطريقةٍ ما يجب أن يكون الإمتداد الطبيعي للأول في أقل مساحةٍ ممكنة عندما تواجهه في واحدٍ من أجمل مشاهد الفيلم ، إنكسار المرأة القوية التي شاهدناها مطلع الفيلم ، تلعثمها وانفعالها البالغ وكلماتها المبلوعة والمتداخلة ونبرات صوتها المتقلبة والطريقة التي تنطق بها كلمة Honey ، ويليامز في مواجهة أداءٍ عظيمٍ من آفلك تضخ كماً كبيراً من العاطفة في أقل مساحةٍ ممكنةٍ بالرغم من أنني أعيب على مونتاج المشهد نقص التناغم الواضح في توليف الـ Takes (وهي هنا ثلاثٌ على الأقل) مما خلق تبايناً إنفعالياً واضحاً بين ردود آفلك (نحو الداخل) وويليامز (نحو الخارج) خصوصاً في القطعين الآخيرين على ويليامز وهو أمرٌ أتجاوزه أمام العاطفة الهائلة للمشهد ، آفلك هو النقيض الإنفعالي لويليامز ، لي مع آفلك يؤدي أيضاً من خلال الحذف ، لا يخطىء توجيه انفعالاته لأنه لا يعرفها ، من النادر أن تشاهد هذه الفعالية في التعبير والتفاعل من خلال اللاتعبير واللاتفاعل والتمتمة والتلعثم والعبارات غير المكتملة والجمل الحوارية المتداخلة ، أصعب الأدوار في نظري هي الأدوار التي تكتم الإنفعال وترسله نحو الداخل وليس نحو الخارج ، آفلك يتعامل مع الدور بـ (طبيعية) عجيبة وكأنه جزءٌ منه فعلاً ، يقتل كل كليشيهات أداءاتٍ كهذه ليظهر لنا تماماً شخصية رجلٍ مات فعلاً لكنه على خلاف ريندي لم يعد قادراً على أن يعود للحياة أو ربما لم يعد راغباً في ذلك ، عذابه الحقيقي يكمن في محاولة ريندي هذه إعادة ربطه بحياته هنا ، ألا يموت وألا يهرب ، ريندي تحاول من خلال إظهار أنها تزوجت وأنجبت أن تثبت له أن الحياة من الممكن أن تستمر ومن الممكن أن تمنحك تعويضاً من خلال عائلةٍ جديدة ، بينما لي (من خلال آفلك) شخصٌ يريد (دون مازوشية) ألا يرفّه عنه أحد وألا يسامحه أحد لأنه هو ذاته لم يسامح نفسه ولأنه (لم يعد هناك شيء) كما يخبرها ويمضي.


طوال تلك المتواليات الثقيلة لبطلنا في بلدته يبقى مركز الحكاية منذ بدايتها وحتى ختامها هي العلاقةٌ غير المحددة التي تجمع باتريك بعمه لي ، عندما ينتهي الفيلم ستبقى ذاكرتك محصورةً بشكلٍ مكثف حول ما حصل لشخصيته الرئيسية ، إلا أن لونرغان لا يفقدنا منذ مشهد الإفتتاح وحتى مشهد الختام الإحساس بالحدث الحقيقي الذي يجمع لي وباتريك ، دور باتريك بالنسبة للوكاس هيدجيز يشابه الكارثة التي حلّت بالنسبة لباتريك ، شيءٌ أثقل بكثير من سنوات عمره وعليه أن يقاومه ويحتمله وينجح فيه وأعتقد أنه يفعل ، هيدجيز يتقلب في الدور ببراعة وبتوازي (ودون تطور) بين الشاب المشاغب ، والإبن الفاقد لوالده والبعيد عن والدته ، وإبن الأخ الذي لا يفهم ، وإبن البلدة الذي صنع عالماً كاملاً هناك ولا يريد أن يفارقه ، شخصيةٌ حادة وصارخة وعالية الصوت بالرغم من كونها تتألم وتعاني دون أن تفهم ، العظيم هنا تحديداً هو طبيعة العلاقة الرجولية / القاسية أحياناً بين العم وإبن شقيقه ، وكيف يبدو ذلك – على مدار الفيلم – عاجزاً عن تجاوز العاطفة التي جمعتهما واختزلها مشهدا الإفتتاح والختام على المركب ، الأواصر التي لا تنقطع مهما كانت المسافة ومهما كان البعد ، الشيء الذي ولد معنا وسيستمر معنا حتى نوضع في ثلاجة مستشفى أو ننزل في قبر ، مشهد باتريك وهو يودع والده جزءٌ أصيلٌ في شخصيته الإنفعالية (ظاهرياً) الهشة (داخلياً) ، باتريك شابٌ تحضّر للفقد مسبقاً وأدركه بمجرد رؤية عمه في ملعب الهوكي ، عاش سنواته الماضية مع والدٍ أخبره الأطباء بأنه لن يعيش للخمسين أو الستين ووالدةٍ كحوليةٍ مستهترة ، فتى تمت رعايته في مراحل أخرى من قبل عم والده الذي انتقل مؤخراً إلى مدينةٍ أخرى أو من قبل عمه لي الذي كان يحضر أحياناً كـ Backup كما يقول للمحامي ، لونرغان يهيئ شخصية باتريك للفقد كي يخفف من تحويل حكاية وفاة والده لتستولي على الوتر العاطفي للفيلم ، على المستويين السرديين (فقد لي وفقد باتريك) يتعامل لونرغان مع تبعات وآثار الفقد وليس مع الفقد ذاته بالرغم من تأثيره وسطوته ، باتريك في الجوهر جزءٌ من جيله لا يختلف عنهم : مراهقي البلدات الصغيرة التي تتمازج فيها العلاقات العائلية بالصداقات ، في بلدته شكّل عالماً قائماً يحاجج به تعنّت عمه لي الذي يريد نقله إلى بوسطن واقتلاعه من جذوره حيث مدرسته وزملاء الرياضة وأصدقاؤه في الفرقة الموسيقية وصديقتين يحاول ايجاد يقينه العاطفي بينهما ، شخصيته التي تبدو (بفضل أداء لوكاس هيدجيز) إمتداداً طبيعياً للفتى الذي شاهدناه في المركب مطلع الفيلم تحاول أن تتمسك بعالمها في مواجهة الفقد الذي تحضّرت له سلفاً ، يكابر عاطفياً ولا يحتمل مشاهدة والده في الثلاجة لكنه يصاب بإنهيارٍ عندما يشاهد الدجاج المثلج في مشهدٍ حقيقيٍ جداً ، وجود باتريك في حياة عمه لي سيحرك الفلاشباك في مساحاتٍ أخرى غير مكتملةٍ من الحكاية بعيداً عن الكارثة التي أصابت لي سابقاً ، عندما يقترح لي على باتريك فكرة الإقامة عند والدته فيرفض يأخذنا الفلاشباك (كما يفعل طوال الفيلم من خلال الإمتداد السردي) إلى ليلةٍ عاد فيها جو ولي وباتريك ليجدوا والدة باتريك المدمنة مرميةً في المنزل دون ملابس ، منفذٌ سيقودنا معه إصرار لي على تجنب إقامة باتريك مع والدته (وهو أمرٌ يفترض أن يكون حلاً يسعده) لفهمٍ أعمق للشخصية يأخذها أبعد من مجرد رجلٍ لا يحب زوجة شقيقه ، لي يرفض لأنه يحب باتريك وحريصٌ على مصلحته ووفيٌ تجاه شقيقه ولا يريد لحياة والدته أن تؤثر عليه سلباً ، وعندما يخطئ باتريك في فهم هذا التفصيل بعد مراسلته والدته يذهب به لي لقضاء يومٍ برفقتها ، ما يجري في منزلها حقيقيٌ جداً حيث رسمية باتريك (غير المعتادة في الفيلم) تبدو عذاباً شخصياً لها ، لا يوجد ما يعذب أماً هجرت ولدها أكثر من رسميته عندما يلتقيها بالرغم من أن باتريك لا يتعمدها ، زيارةٌ تظهر له بنهاية اليوم أن والدته لم تعد خياراً موفقاً الآن سواءًا بسبب الإنقلاب العاطفي الذي يحدث لها أو بسبب نمط حياتها الجديدة مع خطيبها المتديّن (يؤديه ماثيو بروديريك في حضورٍ متكرر في أفلام لونرغان الثلاثة) ، في مشهدٍ آخر يحاجج باتريك عمه بخصوص ما يربطه بمانشستر مقارنةً بما يربط عمه بكوينزي مبرراً رفضه الذهاب إلى بوسطن ، الإمتداد السردي يأخذنا من رفض باتريك الذهاب إلى بوسطن إلى مشهدٍ قديم لإنتقال لي النهائي الى بوسطن قبل سنوات كاشفاً عن علاقة جو بشقيقه التي بقيت حتى النهاية ، إمتدادٌ سرديٌ آخر يحدث بعد الإنهيار العصبي لباتريك أمام الفريزر في المنزل ، يقتحم لي غرفة باتريك ويرفض مغادرتها حتى بعد أن يهدأ ، من هذه الغرفة يأخذنا الإمتداد السردي بالفلاشباك إلى غرفةٍ أخرى هي غرفة لي في بوسطن يوم رفض جو بإصرار التخلي عن شقيقه وذهب لتفقد أحواله هناك وأصر على تأثيث غرفته ، من خلال هذا التراقص بين الحاضر والماضي ودون خبريةٍ أو مواعظ يكشف لونرغان لماذا يرفض لي بالرغم من كل هذه الضغوط النفسية أن يتخلى عن باتريك ، الأواصر الثقيلة التي تقيدنا وتعيش معنا وترفض أن نموت حتى ونحن نبدو للآخرين مجرد أموات ، لي لا يتخلى عن باتريك كإمتدادٍ طبيعي لحقيقة أن جو لم يتخلّ عن لي ، ونحن نعرف حتى وهو يذهب ذات صباحٍ إلى بوسطن ليحضر حاجياته أن هذا القرار لا يروقه ولا يسعده فيكسر زجاج النافذة بيده ، علاقة لي وباتريك (مدعومةً بكيمياء مذهلة بين كايسي آفلك ولوكاس هيدجيز) والتي تأخذ بعضاً من روح أفلام الطريق هي مزيجٌ غير مدركٍ من الحب والتعويض والأبوة والإلتزام ، عبر العلاقة تنسل صورة (المركب) مجدداً كإستعارةٍ لعائلة شاندلر ، يقطع لونرغان على المراكب تتراقص في هدوء عندما يحاول لي ايجاد حلٍ مناسبٍ لوصية شقيقه بينما تسير مشكلة (محرّك) المركب بالتوازي مع مشكلة الوصية قبل أن يتم حلها بالتوازي مع توصّل لي إلى تسويةٍ لمشكلة باتريك (التي تحتاج مجازاً لمحرك) والحل هنا يأتي من بيع بندقيات صيدٍ من (إرث والده) لتأمين المبلغ الكافي لشراء المحرك ، التعبير البصري بليغٌ على هذا المستوى وتأثير ما يجري ينعكس مباشرةً على الصورة وعلى ملامح باتريك وتفهمه لما يفعله عمه من أجله ، وهو إنعكاسٌ سيكتمل في 17 ثانيةً على لقطةٍ ثابتةٍ لباتريك في غرفة نوم لي يتأمل الصور الثلاثة التي جلبها لي معه من بوسطن ، ثوانٍ تمر دون كلمات لكنها تعبر عن لحظة ربما أصبح باتريك يدرك فيها حجم المشقة النفسية التي يعيشها عمه بسبب الكارثة التي حدثت يوم كان هو طفلاً ، مساحةٌ يدعمها لونرغان مباشرةً من خلال كابوسٍ يراود لي عندما تأتيه بناته في حلمه في غفوةٍ نهارية ، هذا التصاعد يجعل المشهد الذي يخبر فيه لي باتريك بقراره النهائي وهو يكرر I can’t beat it ذروةً دراميةً أخرى للحكاية دون أي استبكاءٍ أو استجداء ، بسهولة سنلتمس الحب في قرار لي والحب في تلقي باتريك ، في هذه المساحة قرب الختام تبرز قيمة هذا العمل كواحدٍ من أعظم الأفلام التي تناولت الفقد على الإطلاق ، ليس فقط الفقد المتعلق بالموت أو بأعزاء رحلوا عن الدنيا ، بل هو الفقد الذي يعيشه أي إنسانٍ في أي ظرف ، فقد أي شيءٍ يعنينا ونتألم لغيابه ، اللحظة التي ندرك فيها أننا فقدناه للأبد وأن جرح فقده لن يلتئم مهما حاولنا ، وهذا هو أيضاً أعظم أفلام (الفقد المرتبط بالمكان) التي شاهدتها في حياتي ، مثل رائعة يواكيم ترير Oslo, August 31st لا يكتفي لونرغان بأن يضع المكان في عنوان فيلمه بل يمنحه أيضاً دور البطولة حيث الثقل العاطفي الأكبر للفقد - أي فقد - يكمن دائماً في ارتباطه الوثيق بالمكان ، الإطار المادي للذكرى ، حيث كل شيءٍ هنا يذكرك بشيءٍ ما هناك ، وفي ختامه يبدو أجمل ما يفعله لونرغان هو الإيهام الذي يزرعه في المشاهد في شكل نهايةٍ سعيدةٍ بين لي وباتريك رغم أننا لو تأملناها عن قرب فلن تبدو سعيدةً أبداً ، هي نهايةٌ عن الأمل وعن الحياة التي تستمر وعن ألطف شيءٍ متاح أمام حقائق ليست لطيفةً أبداً .


هذا الفيلم هو ذروة عام 2016 بنظري ، عملٌ ناضجٌ ومكتملٌ نصاً وإخراجاً وروحاً ، درسٌ عظيمٌ في كيف يمكن لحكايةٍ بسيطةٍ أن تعيش وتنمو في ذاكرة المشاهد بين مشاهدةٍ وأخرى ، لو كانت السينما نافذةً على أرواحٍ أخرى وتجارب أخرى فهذه أعظم تجاربها العام الماضي ، فيلمٌ يضع مشاهده في منتصف عاصفةٍ من العواطف ويترك له حرية التعاطي معها ، يثبت فيه لونرغان أنك بحاجةٍ لما هو أبعد من الحزن لتؤثر في متلقيك ، وأن حقيقية الشخصية وصدق تأثيرها مرتبط ونابع من حقيقية العالم المحيط بها ، لا يتكلم في أي مرحلةٍ منه عن (ملحمة حزن) وإنما عن (ملحمة حياة) بناها بالكامل من خلال التفاصيل والعلاقات الصغيرة ومساحات الصمت وشخصياتٍ ثانويةٍ حيةٍ من السهل أن تتخيل شكل عالمها بعيداً عن الحكاية ومن السهل أن تتخيلها تتابع حياتها بعد انتهاء الفيلم وأعتقد أن هذا هو أكثر ما يميّزه عن حكايات (فقدٍ) أخرى شاهدناها في Ordinary People أو In the Bedroom أو The Son’s Room ، في فيلمٍ آخر توقع الكثير من الوعظية والكثير من الأسئلة والإجابات والكثير من الإستجداء العاطفي وبعض العناق والتخفيف ثم تسير الأمور على ما يرام ، في فيلم لونرغان هناك تكثيفٌ عاطفيٌ ناضجٌ ومختلف قائمٌ في جوهره على المسافة بين ما تراه وما تشعر به خلق بالنتيجة كتلةً هائلةً من المشاعر والأبعاد النفسية المعقدة لجميع شخصياته أكثر بكثيرٍ من تعقيدها السردي ، من الصعب أن تكتب ملخصاً صغيراً (منصفاً) عن هذا الفيلم ، ومن الصعب أن تصف على وجه الدقة المشاعر التي يحتويها أو المشاعر التي تتولد عن مشاهدته ، تراجيدي شكسبيريةٌ معاصرة دون أشباحٍ أو ساحراتٍ أو غاباتٍ تتحرك ، فيلمٌ عظيمٌ عن أجسادٍ ندفنها لكننا لا ندفن ذكراها ، وعن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً .

التقييم من 10 : 10

0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters