•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الجمعة، 5 ديسمبر 2014

The Spirit of the Beehive

كتب : عماد العذري

بطولة : آنا تورنت ، إيزابيل تييريا
إخراج : فيكتور إريثه

ولد الإسباني فيكتور إريثه مطلع الأربعينيات و تحدث في فيلميه عنها. جاء من رحم الحرب وعاش جنون حقبة فرنكو وصبغ بها رؤيته البصرية وروح شخصياته. لم يحقق إريثه سوى فيلمين روائيين طويلين فقط فصل بينهما عقدٌ كامل. كلاهما من أهم و أعظم مفاخر السينما الأسبانية ، وكلاهما من أجمل وأرق ما وضع على شريطٍ سينمائي .

كان هذا العمل نتاج حركةٍ من التمرد المبطن على الديكتاتورية طغت على معظم النتاج الفني في حينه من رسمٍ وروايةٍ ومسرحٍ وموسيقى. حركةٌ قادها سينمائياً كارلوس ساورا و خوسيه لويس بوراو و ماريو كاموس استلهاماً لتمرد لويس بونويل ، المنفي العائد لبلاده من أجل تصوير تحفته Viridiana . بين جميع نتاجات تلك الحركة التي صعدت في العقد الأخير من حقبة فرنكو كان فيلم إريثه هذا هو الأعظم والأكثر أهمية .

الحدث يجري في قريةٍ إسبانيةٍ هادئةٍ في أربعينيات القرن الماضي عقب انتصار فرنكو في الحرب الأهلية. آنا و إيزابيل طفلتان لأسرةٍ ريفيةٍ وادعة. والدهما يرعى خلايا النحل ووالدتهما تقضي أوقات فراغها في كتابة رسائل لمحبوبٍ لا نراه. بهجة الطفلتين الحقيقية تكون في قاعة البلدة حيث تجري العروض السينمائية من حينٍ لآخر. تنتظران الأفلام القادمة من المدينة ، وتجلسان بكل براءةٍ وانفتان لمشاهدة وحش فرانكنشتين يجلس مع الطفلة بجوار البحيرة. تخبر إيزابيل آنا بأن الوحش هو روحٌ تقطن من حولنا ولا يمكننا رؤيتها إن لم نكن قادرين على التعامل معها !

في هذا الفيلم ، كما في El Sur بعد عقدٍ من الزمان ، يستكشف إريثه الجزء الداخلي غير المختبر من حياة الطفل. الروح التي لا يعبِّر عنها ولا يكتبُ في وصفها. المادة الخام التي لم تلوث والقابلة للتشكل من صورةٍ أو همسةٍ أو تصرفٍ عابر. لا يكون فجاً في تعامله مع تلك المادة الخام ، يحيطها بالكثير من التفاصيل. الفيلم مهرجانٌ من تفاصيلٍ لا يهم إريثه التفكير في المساحة التي تحتلها من السرد بقدر ما يهمه الطريقة التي تساهم فيها في تشكيل واقع تلك المادة الخام. يكتفي بمراقبتها وهي تلتقط من تفاصيل يومياتها ما يجعلها بمرور الزمن تتحوّل إلى مادةٍ (مصنّعة)! منذ اللحظات الأولى تتحول عينا المشاهد إلى رفيقٍ حقيقيٍ لآنا وإيزابيل. مراقبتهم ممتعةٌ فعلاً : البلدة النائية ، الطرقات الخاوية ، العائلة الأرخبيلية ، دار السينما ، المنزل ، الأشجار المرصوفة على جانبي الطريق. اللوحات ذاتها التي جعلها إطاراً لشخصية إستريا لاحقاً في El sur ، لوحاتٌ لا يمكن مقاومة الإحساس بأنها جزءٌ أصيلٌ من طفولة إريثه ذاته في الأربعينيات. يدرك الرجل جيداً – مستخدماً المفاتيح ذاتها – الدفع العاطفي الهائل لإحاطة الطفولة بمثل هذا الكم من التفاصيل عن الشيء غير المتذكر من تلك المرحلة. أجمل ما في تجربَتي إريثه العظيمتين هي العلاقة التي يؤسسها - ولا تشبه أي شيءٍ آخر - بين ذاكرة المشاهد ومرحلة الطفولة. هو هنا قادرٌ بعبقرية على التقاط الجزء الذي يعجز أي فنانٍ آخر عن التقاطه في طفولته. يبدو لي أشبه برجلٍ بالغٍ استخدم آلة الزمن ليعود ويكون شاهداً على طفولته ، يلتقطها بعين الفنان البالغ لا بعين الطفل. ما أن يتجاوز المرء مرحلة الطفولة حتى تتحدد علاقته بها في تفاصيل بعينها. إريثه يلتقط ما وراء التفاصيل. يلعب في المساحة التي لم يخبرنا أحدٌ عن وجودها رغم أننا بمجرد أن نشاهدها مع إريثه نتأكد من أنها كانت في متناولنا في يومٍ من الأيام ! الفيلم لديه كتلةٌ هائلةٌ من العاطفة تحت لوحاته الزيتية. يخلق شيئاً مشتركاً بين (واقع) شخصياته و (ماضي) مشاهديه ! يجعل من مراقبة حياة الطفلتين شيئاً من استذكار ماضينا الخاص ، ليس من خلال الطقوس النوستالجية البسيطة التي نبتسم بمجرد تذكرها في أي فيلمٍ سينمائي ، وانما من خلال المشترك الذي لم ندرك وجوده وأثره إلا عند مشاهدتنا لهذا الفيلم بـ (عين) الطفل و (عقل) البالغ. علاقته بذاكرة الطفولة عبقريةٌ محضة ، لا أدري كيف فعلها إريثه لكنها فعلها بعظمة في المرتين .

في العمق يقترب إريثه من عالم آنا وشقيقتها إيزابيل بنفسٍ إيحائي لا يخلو من غموض. في السينما تصر آنا على معرفة مصير وحش فرانكنشتين. لقاء الوحش بالبراءة يفتنها ويستحوذ عليها. تُخبرها إيزابيل أنه لم يُقتل لأنها رأته بعد ذلك في مكانٍ قريبٍ من القرية ! تخبرها أنه روح ، والروح لا هيئة لها لذلك لا يمكن قتلها ، ويمكنها التحدث إليه إذا كانت صديقته ! باكراً جداً تقترن الروح بآنا ، والروح لا تموت ! نستمع من غرفة والدها لجملٍ من فيلم فرانكنشتين عما وراء العالم الضيق الذي نعيشه. إريثه من خلال تتالي الحدث وإيقاعه يحاول أن يسير حكايته بعيداً عن إطار وحش فرانكنشتين الضيق ، يتقدم السرد بنعومة مرتكزاً على مفاصل صغيرةٍ يخلقها استكشاف آنا و إيزابيل لعالمهما. لا يجعل ما يجري في السينما يتجاوز كونه مفصلاً من تلك المفاصل ، من أجل أن يُرينا – عندما يضرب ذلك المفصل حياة آنا في الصميم لاحقاً – نوعية التفاصيل الصغيرة العابرة التي شكلت طفولتنا ، و كيف كانت الكون كله بالنسبة لنا !

حول (التفاصيل) هناك (واقعٌ) قائمٌ للشخصيات. إريثه - على خلاف العادة و بعيني طفلٍ كبير - يقلب الآية ، يجعل من (التفاصيل) عالماً لشخصياته و يجعل من (واقعها) الجزء الثانوي من حياتها. يدرك أكثر من أي صانع سينما آخر أن ما يشكّل تلك المادة الخام في الطفل هو (التفصيل) و ليس (الصورة الكبيرة) حيث تقبع أسبانيا فرنكو. ما يغريه هو (الدودة التي التهمت نصف ورقة التوت) و ليس (شجرة التوت) ذاتها ! مقدار ما تلتقطه عيناه من تفاصيل ومقدار ما تفهمه أذناه من عالم الكبار و كيف يتقبل أنفه الفضولي تلك التفاصيل وتعيد مخيلته (المجرّية) بناء عالمٍ جديدٍ لها بالمقاييس التي تناسبه حيث الدودة تصبح ملكةً بصولجانٍ و عرش على شجرة التوت كلها !

في (الواقع) هناك عالمٌ ملول ، كل ما فيه ينضح بالرتابة ، يسير بروتينيةٍ عجيبة ، لكنه من خلال عيني آنا و (التفاصيل) التي تلتقطها يبدو مبهجاً وواسعاً ومليئاً بالكثير. الصخب الذي تملأ به الحدث مع إيزابيل ممتع فعلاً ! في جولاتها يُعرّفها والدهم على الفطر السام ، شكله المغري وأثره الذي لا شفاء منه. في المنزل نشاهدها مع إيزابيل تضع كريم الحلاقة ونشاهد إيزابيل لاحقاً تضع قطرة دم على شفتيها كأي طفلٍ يغريه ذلك العالم الذي يسمونه عالم الكبار. في المدرسة تعرض لها مُدرّستها مجسّماً لرجلٍ يدعى دون خوسيه ، هيكله ينقصه الكثير ، يمنحه التلاميذ كل ما ينقصه من أعضاء ، لكن المعلمة بعد كل ذلك تخبرهم أنه ما زال بحاجةٍ لشيءٍ مهمٍ جداً ، عيناه ، منفذنا نحو روحه. يستخدم إريثه المجاز أيضاً في خلية النحل (عنوان الفيلم). آنا تعيش في منزلٍ بنوافذ تشبه خلايا النحل في توازٍ مع خلايا النحل التي يرعاها والدها ويكتب عنها. سرٌ من أسرار الكون. منظومةٌ كاملةٌ تتحرك بتراتبيةٍ عبقرية وتوازنٍ بالغ الدقة. إريثه من خلال عائلة آنا يبحث عن الروح في تلك المنظومة التي تحكم عالم آنا. روح (خلية النحل / المنزل / أسبانيا) التي لا روح فيها ! النحل كما يصفها والدها أعدادٌ كبيرةٌ ، وعملٌ شاق دون جدوى يسلبها نتائجه كائنٌ آخر . الذهاب والعودة كل يوم ونداء النوم الذي يتم تجاهله ، مع قطعٍ من إريثه على فتياته النائمات. عائلة آنا تبدو ميتةً منذ زمن ، حياتها إنعكاسٌ عميقٌ للحكم الشمولي في حقبة فرنكو ، الحكم الذي أعاد تنظيم وبناء إسبانيا جديدة دون روح. الفطر السام ذو الشكل المغري والأثر الذي لا شفاء منه. بلدة آنا مثل مئات خلايا النحل في أسبانيا تبحث عن روحها. والد آنا بعيدٌ عن والدتها ، ووالدتها تخاطب في رسائلها محبوباً مجهولاً فرقته عنها الحرب. الحرب جعلت الناس يكبرون ، وعندما كبروا سُلبت براءتهم فخسروا حريتهم. آنا هي روح خلية النحل ، أكثر حريةً من عائلتها لأنها أكثر براءةً منهم. قوتها الحقيقية هي براءتها ، تيمةٌ ستحصل على سبرها الأعظم لاحقاً مع عاشق هذا الفيلم غاييرمو ديل تورو في Pan's Labyrinth. إريثه يتلاعب بالترمومتر العاطفي الهش جداً لتلك المرحلة العمرية التي تحكمها البراءة. البراءة هنا إناءٌ يقل محتواه كلما كبرنا. إيزابيل كذبت على آنا مرتين ، مرةً بخصوص وحش فرانكنشتين ، ومرةً عندما تظاهرت بالموت. كذبت عليها لأنها أكبر منها ! إيزابيل أقل براءةً من آنا لأنها أكبر منها ، وعالم الكبار حيث فقدت تلك البراءة عنوانها هو عالمٌ قاسٍ جداً بالنسبة لآنا. لا تدرك ذلك إلا عندما توضع براءتها على المحك وندرك نحن من خلالها كيف أن عالماً بأكمله نشأ بأبعاده المختلفة في تلك المرحلة من حياتنا بسبب كلمة ، أو تصرف ، أو موقفٍ تغير معه كل شيء. كلمات إيزابيل بقيت تتردد في عقل آنا. قادتها إلى ذلك المنزل المهجور بجوار البئر. فتنتها فكرة الروح التي تظهر لمن يصادقها. أبهرها أثر القدم الذي وجدته هناك. ثم أُشبع فضولها مع لقائها بـ (الجندي الهارب / الروح) : صورة إريثه الكبيرة لمن قاوموا حكم فرنكو ، تماماً كما كانت آنا صورته الصغيرة في ذلك المنزل. الروح التي تقتل لاحقاً – رغم أنها لا تموت – ويجلب جسدها إلى قاعة السينما حيث بدأت رحلة آنا معها أول مرة. إريثه جعل من استكشافه لطفولة آنا شيئاً يلامس أعمق غورٍ من ذاكرتنا مع تلك المرحلة. المنطقة التي لم ندرك وجودها وأثرها لكننا مع إريثه نستذكرها ونستذكر مقدار ما ساهم فهمنا المعجون ببراءتنا في إدراك تفاصيل حياتنا وفقاً لمعاييرنا القاصرة حينها. وعندما تدرك آنا قسوة عالم الكبار في ذروة الفيلم تفر ، نجدها في رحلة هروبها تقف هناك مستذكرةً لقاء الوحش بالبراءة عند البحيرة. نراها تتأمل الفطر السام ، وكأنما في إغرائه تكمن لحظة الفراق الأخيرة مع براءتها. إريثه يختزل في آنا إبنة الأربعينيات جيله بأكمله. اللحظة التي (أدرك فيها أشيائه المفقودة ، وفقد قدرته على الإحساس الحقيقي بالحياة) كما تقول رسائل والدتها. اللحظة التي وقف فيها أخيراً على عتبة تناول الفطر السام والتخلي عن روح خلية النحل !

هذا فيلمٌ عظيم ! عمق حكايته وبراعة سرده وسبره العميق لعالم الطفولة كإنعكاسٍ لواقع الحكم الديكتاتوري الذي شكل شخصية جيل إريثه ، كل ذلك لا يطغى على اللوحة البصرية الفاتنة التي يقدمها الرجل فيه. متواليةٌ من لوحاتٍ تشكيليةٌٍ حقيقية. من الصعب جداً أن تقر بأن مخرجاً قد يصنع كل تلك الخصوصية لبصمته البصرية من فيلمٍ أو فيلمين فقط. صورة إريثه لا تشبه أي شيءٍ آخر. بطله الأول هنا هو مدير التصوير لويس كودرادو. يتحدثون عن بيتهوفن لكنهم لا يتحدثون عن كودرادو ! مدير التصوير الذي بدأ يفقد بصره مع تقدم عمله هنا ، وأكمله و هو يكاد لا يرى شيئاً ، ثم فقده تماماً بعد ذلك وانتحر بعد سبع سنوات في سن الخامسة و الأربعين. كودرادو عظيمٌ هنا حد الأفق. صورته معجونةٌ بلون الشمس وحبات القمح. القريةُ مع كودرادو لا تشبه أي شيءٍ آخر. صورته وحدها تمنحنا مذاق الذكرى والماضي الذي أفل. عزلة العائلة تجسدها كاميراه أكثر مما يجسدها النص. الفراغات الكبيرة في الكادر حول كل عنصر ، التقاط الطريق الفارغ والمنزل الوحيد ، اللون الغروبي الذي يمنحنا على الدوام احساس الأفول ، الخصوصية البصرية في التعامل مع والدي آنا وكأنما هما كوكبان مستقلان يسكنان منزلاً واحداً . كودرادو يوازي تلك العزلة البصرية مع عالمٍ غنيٍ جداً يحيط به آنا و إيزابيل. مشاهدهم في السرير فضاءٌ رحب ، صخبهم في المنزل الخاوي فضاءٌ أرحب. كاميراه التسجيلية في قاعة السينما شعر ، العلاقة التي تؤسسها مع وجوه الأطفال المبهورة تدفعك وحدها لتتساءل (كم (آنا) كانت هناك ؟!). منتوجٌ بصريٌ من أفخم ما شاهدت على شريطٍ سينمائي. لا أقل منه موسيقى لويس دي بابلو ، هذه الموسيقى لا تأتي إلا مع تصويرٍ كهذا وهذا العمل التصويري لا يأتي إلا مع موسيقى كتلك ! لا تتوقع منها شيئاً أمام طبيعة الحكاية وسحر الصورة وهذا جزءٌ من جمالها. معها ، تجلس فقط وتسترخي أثناء مراقبة أنا. يحضرني دائماً المشهد الذي تجلس فيه الفتاتان تراقبان المنزل المهجور عن بعد في لقطةٍ واسعة قبل أن تركضا على موسيقى دي بابلو إلى حيث تتغير حياة آنا للأبد ، وشريط الصوت العظيم في مشهد لقاء آنا بالوحش عند البحيرة. توليفة بصريةٌ صوتية لا تشبه أي شيءٍ آخر .

وفي الختام هناك آنا تورنت ! اختيارها بحد ذاته يثبت وله إريثه بالطفولة ! تورنت لا تستوعب المفهوم التقليدي للتمثيل. انبهارها وصمتها وتساؤلاتها حقيقيةٌ جداً. بل أنها لم تكن تعلم فعلاً أن فيلم فرانكنشتين هو مجرد تمثيل لدرجة أنها تشوشت عندما أخبروها أنها ستلتقي وحش فرانكنشتين في ختام الفيلم ! إريثه من أجل ذلك سهل عليها الأمر بأن منح لكل شخصية في الفيلم اسم ممثلها الحقيقي ، جعلها تسترخي في الدور فأخرجت أفضل ما في الطفل. رد فعلها عندما تكتشف كذبة موت إيزابيل لا يوصف. رد فعلها عندما تكتشف أن ساعة والدها كانت في السترة التي أهدتها للجندي لا توصف. واحدٌ من أصدق أداءات الصغار على الإطلاق ، في واحدٍ من أعظم الأفلام التي استكشفت عوالمهم على الإطلاق .

التقييم من 10: 10


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters