•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الجمعة، 30 مايو 2014

Kes

كتب : عماد العذري

بطولة : ديفيد برادلي ، برايان غلوفر
إخراج : كينيث لوتش

أتذكر أن أحدهم سألني ذات مرة : إذا ما كنتَ مخرجاً معروفاً فمن كنتَ ستكون ؟ و أتذكر أنني أجبته دون تردد : كشيشتوف كيشلوفسكي. هذا الرجل – و إن اختلف ترتيب أعماله في سلّم مفضلاتي - يمثّل بالنسبة لي ذروة ما يمكن أن أحلم بأن أكونه فيما لو قررتُ أن أكونُ مخرجاً ذات يوم : عظمة الفكر والفلسفة والتكوين والإشباع البصري والإيقاع والإحساس بالحكاية. ولو أردتُ ان أكون كيشلوفسكي فمن المنطقي أن أتفهم بسهولة لماذا يعتبر البولندي الكبير فيلم كين لوتش هذا واحداً من أفلامه المفضلة .

كان هذا الفيلم العمل السينمائي الثاني في مسيرة كين لوتش. حققه أواخر الستينيات تحت اسمه الأول الكامل كينيث في واحدة من مناسبتين فقط في مسيرته. كلف أقل من 400 ألف دولار وتم انجازه في أسبوعين فقط لينال بمجرد اطلاقه سيلاً من مديح النقاد والجمهور عجز كين لوتش ذاته - على مدى 27 فيلماً روائياً أنجزها بعده – عن الإرتقاء إليه مجدداً. صحيح أن الفيلم قوبل بصورةٍ سيئةٍ من الجمهور الأميركي بسبب لهجته التي بدت صعبةً حتى في بريطانيا ذاتها ، إلا أن ذلك لم يحجب الحقيقة البارزة اليوم عن أن أعظم ما قدمه كين لوتش تحقق في تجربته الإخراجية الثانية التي عوملت لاحقاً كواحدة من أعظم كلاسيكيات الفن السابع ، ووضعت في المرتبة السابعة على قائمة الـ BFI الشهيرة لأعظم الأفلام البريطانية عبر العصور .

جاء Kes بعد أربع سنوات من عمل لوتش في التلفيزيون وبعد تجربةٍ سينمائيةٍ وحيدة ، وتحديداً في نهاية ما عرف بالموجة البريطانية الجديدة التي تأثرت بحركة الشباب الغاضب الأدبية. قامت الموجة في جوهرها على الواقعية والدراما شبه التوثيقية التي تتعامل مع مواضيع تمس التباين الطبقي في المجتمع البريطاني وثيمة التحول المجتمعي والشباب المتمرد التي ضربت في الستينيات وقدمت لنا أسماء مخرجين مهمين مثل توني ريتشاردسن و لينزاي أندرسن و جون بورمان و كارل رايز و جاك كلايتن و ريتشارد ليستر و نيكولاس روغ و كين راسل و بيتر ييتس و جون شلاسنغر .

الحكاية عن بيلي كاسبر ، مراهقٌ يعاني الأمرّين في منزله ومدرسته في يوركشير ، مضطهداً من شقيقه ، مهملاً من والدته ، مسخّفاً من مدرسيه ، يعمل في وظيفةٍ صغيرةٍ سرعان ما تبدو قيداً جديداً لا يُغني حياته في شيء ، حتى تظهر كيس في حياته ، الصقر الأنثى الذي يعثر عليها في احدى السقائف ذات يوم ، وتصبح السماء والأرض بالنسبة له .

في هذا النص المقتبس عن رواية A Kestrel for a Knave لباري هاينز والتي صدرت قبل الفيلم بعامٍ واحد ، يبدو لوتش وكأنما يحقق شيئاً يحبه جداً ، شيئاً يضرب في صميم مواضيع الموجة البريطانية عن البيئة البريطانية والسحق الاجتماعي لكن من خلال دراسةٍ سلوكيةٍ وتعليقٍ سياسيٍ أوسع أفقاً وأكثر بصيرة تذكّر في ملامحها الخارجية برائعة فرانسوا تروفو The 400 Blows بعد عشرة أعوامٍ على اطلاقها. يتعرض لوتش في فيلمه لطبقية المجتمع البريطاني من خلال سكان الريف وضواحي المدن التي ارتبط اقتصادها بصورةٍ أو بأخرى بعمال المناجم في المنطقة ، بيئةٌ يبدو النادر فيها هو أن يشق المرء طريقه بعيداً عن مصيره التقليدي في أن يصبح عامل منجم. بطلنا بيلي كاسبر في طريقه نحو ذلك المصير المحتوم ، يعيش ذات المعاناة التي عاشها بطل تروفو. معاناةٌ بقدر ما يبدو الوضع الإجتماعي مؤثراً فيها بقدر ما تقوم في جوهرها على سلسلةٍ لا تتوقف من سوء الحظ. لا يبدو بيلي كاسبر بالنسبة لنا في أي مرحلةٍ من مراحل الفيلم شخصيةً سلبيةً أو مستهترةً أو بغيضة. هو ابن بيئته جداً. بحاجةٍ لقليلٍ من التفهم ، وقليلٍ من القبول ، وبعض الحرية ، فقط ليشعر بقليلٍ من الرضا عن حياته. بيلي أقل تمرداً ربما من بطل تروفو ، لكنه يعاني سوء الحظ ذاته. لا يجد التقدير الكافي من والدته ، أو التقبل المناسب من شقيقه ، أو الرضا المفترض من رب عمله ، أو التعامل المناسب من معلمه ! مأساته مزدوجة : ليس فقط لأنه ينتمي إلى هذه البيئة الريفية المسحوقة ، بل لأنه أيضاً العنصر المسحوق ضمن هذه البيئة المسحوقة ! يذهب لوتش أبعد من جميع مخرجي تلك الموجة الذين اهتموا بإنسحاق الطبقات الدنيا من المجتمع البريطاني. لوتش يتناول من خلال بطله الصغير جزءاً لا يتجزأ من بنية التطور الانساني عبر العصور : انسحاق الطبقات الدنيا من المجتمع المسحوق ذاته. الحياة التي يعيشونها على هامش الهامش راضخين لأمر الطبقة المتحكمة / العليا / المسيّرة للأمور والتي تحقق في تحكمها بالطبقة الدنيا رد فعلٍ ارتدادي لمكانتها الاجتماعية وانتمائها البيئي. الفيلم كله عبارةٌ عن سلسلةٍ من (الطبقات المتحكمة) و (الطبقات المحكومة). والطبقة المتحكمة في الفيلم لا تعيش حياةً مثاليةً أًصلاً ولا تختلف في شيءٍ عن الطبقات الأقل. هي أيضاً أسيرة واقعها ونتاجُ حلمٍ انعتاقيٍ راودها وعجزت عن تحقيقه. هذا التفصيل يصل ذروة عظمته في مشهدٍ مطولٍ لمباراة كرة القدم ضمن الحصة الرياضية في المدرسة. على مدى عشر دقائق يراقب لوتش حالة التنفيس التي يمارسها مدرس الرياضة في طلابه الراضخين ، ويسيّر بها المباراة ، ويعيد بها ضربة الجزاء كي يسجلها مُرضياً حلماً قديماً منكفئاً في زاويةٍ من الذات باللعب لمانشستر يونايتد على أرض أولد ترافورد كما فعل بوبي تشارلتن من قبل ! كل ما يحدث في المشهد وفي مشهد الحمّام الذي يليه هو صورةٌ عظيمةٌ يحققها لوتش لهذا المجتمع الصغير الذي يعيش على الهامش وينقسم كرد فعلٍ منطقيٍ على انسحاقه إلى طبقةٍ متحكمةٍ وأخرى مسحوقة .

عندما يعثر بيلي على الصقر كيس يكون هذا رد الفعل الطبيعي تجاه ذلك الإنسحاق المزدوج. الإرتداد نحو الذات ومحاولة خلق طمأنينةٍ ذاتيةٍ تجاه ما يجري ، والسعي لتوليد قناعةٍ مزيفة بأن تلك الدوامة لن تسحبه معها و أن ما حدث للآخرين لن يحدث معه. هذا الإرتداد يخلق عالماً جديداً له أبعاده الخاصة ويجد فيه المضطهد ملاذه الآمن الذي يطمئن له. محاولة انتقالٍ من مرحلة الاستضعاف المطلق إلى مرحلة القوة النسبية ، و هي ليست محاولةً تمردية كما حدث مع بطل تروفو بقدر ما هي حالة تفهمٍ لإحتياجات الذات وسط ما يجري : القليل من الحرية التي تجعل تقبله لتلك الدوامة و ذلك المصير ألطف و أقل وطأة ! بيلي كاسبر في جوهره يشبه الصقر كيس ، هو يحقق من خلال رعايته لها – دون قيودٍ أو سلاسل - ما تقوم به كيس اساساً في علاقتها به : أن يبقى حراً طليقاً حتى وإن كان هناك من يرعاه و يقوم على أمره. ذلك الهامش من الحرية هو كل ما يحتاجه بيلي في (العالم الذي هرب منه) و قام بتحقيقه في (العالم الذي قام ببنائه) مع الصقر. ذلك الهامش الذي تحقق لكيس (كطبقةٍ دنيا جديدة) من قبل بيلي (الطبقة المتحكمة الجديدة). وعندما نتأمل نظرات عيني بيلي و هو يتكلم على مدى اربع دقائق عن عالمه الجديد أمام زملاءه في الصف (في أداءٍ بارعٍ من ممثلٍ غير محترف اسمه ديفيد برادلي) تكون تلك الفسحة أنقى و أصدق ما في الفيلم كله. لحظة انتصارٍ حقيقيةٍ للروح. الشيء الوحيد الذي يعتقد أنه حققه ويستطيع المفاخرة به. حققه بذلك الهامش البسيط من الحرية بعيداً عن عيون (الطبقة المتحكمة). ولذلك يشعر بيلي بالسعادة عندما تقوم (الطبقة المتحكمة) ممثلةً بمدرسه في الصف بتفهّم ما فعل وتقديره والمجيء لمراقبة عالمه الجديد عن كثب. وعندما ينفجر بيلي في وجه شقيقه لاحقاً بسبب ما فعله بالصقر ، لا يكون ذلك فقط بسبب قيمة الصقر بالنسبة له ، أو بسبب شناعة ما جرى ، هو الحنق و الغضب (ثيمة موجة الشباب الغاضب) تجاه (العالم الذي فر منه) عندما تجرأ وقام بتدمير (العالم الذي قام ببنائه). كين لوتش كان عظيماً جداً وهو يطرح ذلك .

و بالتأكيد هناك صورةٌ عظيمةٌ تعشقها العين في هذا الفيلم. لوتش في هذا الفيلم كان دقيقاً جداً بخصوص أجواء الحدث وقام بتصويره في مناطقه الحقيقية مع سكان المنطقة أنفسهم مستغلاً لهجتهم المحلية لإعطاء خصوصية وحقيقيةٍ عاليةٍ لبيئة الحدث يحتاجها فعلاً. ثم عمل من خلال كاميرا العظيم كريس مينجيز على خلق عالمين متباينين بين تدريجات اللونين البني والأخضر. تزداد كثافة اللونين وتقل بين العالمين. يجعل لوتش من فسحات العالم الجديد - بكادراتها الواسعة والأخضر الذي يغمرها - مساحة حريةٍ حقيقيةٍ لعين المشاهد. في حين يخنق الصورة في العالم الأصلي حيث مكان العمل والمدرسة والمنزل. حتى المشهد المطول للحصة الرياضية يخنقه كين لوتش بكادراته بالرغم من التصوير الخارجي ليعزز حدية التباين بين عالمي بيلي .

يقال أن كين لوتش جعل ديفيد برادلي يدرّب ثلاثة صقورٍ أثناء فترة التصوير ثم قام بقتل أحدهم فعلاً كي يولد شعور الغضب لدى برادلي الذي لم يكن ممثلاً حقيقياً ، ثم كشف له لاحقاً أن الطيور التي دربها ما تزال حية وأنه استخدم طائراً ميتاً كي يستخرج غضب ديفيد. هذا فيلمٌ عن الغضب كما هي الموجة التي ينتمي إليها. ليس الغضب الذي شاهدناه في واحدٍ من أشهر أفلام الموجة If…. قبله بعام. هو هنا حالة ارتدادٍ نحو الذات لتحصينها من عالمٍ يقيدها ومحاولة خلق طمأنينةٍ وطاقةٍ تدفعها لتحقيق العالم الذي يحرّرها. في ثلاث مشاهداتٍ للفيلم أتفهم كل مرة لماذا يحب كيشلوفسكي هذا الفيلم إلى الدرجة الذي يعتبره فيها واحداً من أفلامه المفضلة. عملٌ من تلك الأعمال التي أستحضر بقوة مع انتهائها عبارة (هذه هي السينما) ، وبالتأكيد واحدٌ من أفضل الأفلام التي شاهدتها في حياتي .

التقييم من 10 : 10

  

0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters