•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الأربعاء، 18 ديسمبر 2013

The Passion of Joan of Arc

كتب : عماد العذري

بطولة : ماريا فالكونيتي ، يوجين سيلفان ، أندريه بيرلي
إخراج : كارل ثيودور دراير

منذ شاهدته أول مرة قبل سبعة أعوام و حتى مشاهدتي الأخيرة له منذ بضعة أيام تغير الكثير. أعترف الآن بأنها واحدة من التجارب السينمائية القليلة التي تزداد قيمتها بوضوح كلما ذهب المرء بعيداً في مشاهداته السينمائية و كلما ازداد فهمه للكيفية التي تطورت بها السينما. هذا الفيلم واحدٌ من أهم التجارب السينمائية و أكثرها نفوذاً و تأثيراً على الإطلاق .

في الواقع هو لم يكن مشروعاً لمخرجه الدنماركي العظيم كارل ثيودور دراير. كان مجرد عملٍ تاريخيٍ فرنسي أوكلت مهمة اخراجه اليه و كان مخيّراً بين تقديم شخصية ماري أنطوانيت و شخصية ماري دي ميديتشي. رفض دراير الشخصيتين و قرر تقديم نسخةٍ جديدةٍ من جان دارك بعد ستة أعوامٍ فقط على اعلانها قديسة و بعد أكثر من ثلاثين عملاً سينمائياً تناولها قبله. من ناحية يبدو هذا التفصيل مبرراً تسويقياً لإختيار الشخصية. و من ناحية قد يبدو هذا الإستهلاك - الذي تعرضت له الشخصية قبله – تفسيراً محتملاً لهاجس التجريب الذي استحوذ على دراير أثناء تقديمه لها و رغبته في إثبات أنه يقدم شيئاً مختلفاً تماماً عن كل ما تناولها قبله .

حقق الفيلم مراد دراير. قوبل بصورةٍ ممتازةٍ من قبل نقاد السينما بالرغم من حقيقة أنهم لم يستوعبوا تماماً حدود عظمته. و بالمقابل اعتبره آخرون نخبوياً و فوقياً الأمر الذي أعاقه عن تحقيق النجاح الجماهيري المطلوب و وقف حاجزاً أمامه في استرداد تكاليفه الخرافية التي بلغت تسعة ملايين فرنك في ذلك الحين. و ربما كان للأفلام الناطقة – الوليدة في حينها - جزءٌ مهم في ذلك المردود السلبي. مع ذلك لم تمر سوى بضع سنوات حتى كان كل ذلك ماضياً. تعرض الفيلم لكارثة عندما فُقدت نسخه الأصلية كما حدث مع الكثير من الأفلام. ويبدو أن الأوروبيين عانوا أكثر من الأمريكان على هذا الصعيد. تعذّر لأكثر من نصف قرن الحصول على نسخةٍ مكتملةٍ و حقيقيةٍ منه (و هذا حدث مع رائعة دراير الأخرى Vampyr) حتى تم العثور على نسخةٍ أصليةٍ له عام 1981 في احدى المصحات العقلية في أوسلو. كان قدر الفيلم أن يُعاد اكتشافه و ألا يتلاشى كما حدث مع عددٍ من الكلاسيكيات التي لم يصلنا منها سوى أسماءها. و كان قدره أن يتم التعامل معه اليوم كتحفةٍ أو أثرٍ تاريخي تم استرداده ، و الأهم كفيلمٍ أساسيٍ جداً في مسيرة تطور السينما.

يقص علينا هذا الفيلم الفرنسي الصامت محاكمة جان دارك ، الشابة الفرنسية التي قادت معارك التمرد الفرنسي لطرد الإحتلال الإنجليزي لبلادها في القرن الخامس عشر و لعبت دوراً حاسماً في حرب المائة عام بين فرنسا و بريطانيا ، قبل أن يلقى القبض عليها و تحاكم بتهمة الهرطقة و ادعاء أنها مبعوثة الرب و أن ما حدث كان لأنها تلقت اشارةً سماوية دفعتها للقيام بما قامت به .

ينتمي النص في حكايته إلى ما يمكن تسميته أفلام الإيمان و هو موضوعٌ ربما راق لدراير ملامسته بشكلٍ أو بآخر في أفلامه ، لكنه تناوله بصورةٍ صريحة في هذا الفيلم ثم أعاد ذلك في رائعته الأخرى Ordet بعد قرابة ثلاثة عقود. في البناء العام لا يستمد النص قيمته الدرامية من الحدث و الحوار ، فمسرحه تقريباً هو مكانٌ واحد ، و حكايته تخلو من الأحداث المفصلية الحقيقية التي قد تجعله غنياً على صعيد التحولات الدرامية ، و حواره شبه دينيٍ يتمحور حول ثني جان دارك عن معتقداتها. الفيلم مختلف على صعيد تناول الشخصية التاريخية ، مختلف حتى بالمنظور الحالي للفيلم التاريخي. هو لا يعرض لنا أي شيء مما قامت به البطلة ، لا يتطرق حتى للجزء اليسير من ذلك و هذا قد يجعل من المعرفة التاريخية المسبقة بالحدث شيئاً مفيداً للمشاهد. النص يتناول المحاكمة فقط و هو شيءٌ لم يكن اعتيادياً اطلاقاً في زمنه. وبالتالي فهو يستمد دراماه من لغته السينمائية أكثر مما يستمدها من حكايته و هو شيءٌ وضعه دراير نصب عينيه و هو يكتب هذا النص رفقة جوزيف ديلتيل عن رواية الأخير التي حملت اسم جان دارك .

من أجل تحقيق ذلك كتابياً يعمل النص على تكثيف الحدث بشدة. تبدو لك المحاكمة التي استمرت فعلياً لأشهر موضوعةً هنا ضمن يومٍ أو يومين لا أكثر. و بالرغم من ذلك يجعل النص من ذلك التكثيف فعالاً و غير منتقص اطلاقاً. ربما خدمه في ذلك استناده في جوهره على حدية التعبير (القصصي / البصري) المستلهمة بالطبع من التعبيرية الألمانية المكتسحة في تلك الفترة ، الأمر الذي أتاح للنص تقديم حكايته المكثفة دون الإسترسال في أي تبعاتٍ تاريخيةٍ أو معالجاتٍ نفسيةٍ للحدث. لذلك لا تبدو الحكاية بحد ذاتها مهمة بقدر ما هو الإطار العام الذي تتناول من خلاله الصراع بين الإيمان و الشك لدى جان دارك من جهة ، و بين الإيمان و المؤسسة الدينية التي تحاول ادارته من جهةٍ أخرى. هذا عظيم و لا يمكن نكرانه. النص يتجاهل الحكاية التقليدية التي يعرفها الجميع عن جان دارك و يعمل فقط على المحاكمة ، و هو من خلال هذا التكثيف لا يحاول التطرق اطلاقاً لما فعلته جان دارك و إنما للإيمان الذي برر لها ما فعلته ، و لا يحاول تناول الصراع بين (جدوى ما فعلته جان دارك من عدمها) و إنما الصراع بين (إيمانها بتبريرها له من عدمه). حتى التعذيب الذي يفترض انه مورس عليها لا يهتم به النص قدر اهتمامه بإعطائنا الشعور بسطوة ترقبه و الخوف منه لدى جان دارك بالتوازي مع سطوة ايمانها عليها و خوفها من ربها. لذلك هي توقع على الاقرار الذي يعتق رقبتها و يرسلها عوضاً عن ذلك الى السجن ، لكنها تشعر بالذنب و تدرك خطأ ما فعلت فتتراجع عنه. كل تلك السطوة الإيمانية (إيمان جان دارك بمعتقدها ، و إيماننا نحن بقسوة ما ينتظرها) يرينا إياه النص خارج الصورة. فقط من خلال التركيز على خلق كمٍ وافرٍ من الاحاسيس و المشاعر التي تخبرنا كل شيء في فيلمٍ صامتٍ بشخصياتٍ معدودةٍ تدور معظم أحداثه في مكانٍ واحد. هو يصور لنا عظمة و سطوة الإيمان بأي شيء مهما كان من خلال جعلنا نؤمن ببطلته. يلامس جوهر الإيمان ، الغير قائم أساساً على الفرضيات و المسلّمات قدر ما هو قائمٌ على الشعور و الإحساس و الإعتقاد الراسخ ، ليس فقط كحكايةٍ يسردها علينا ، بل كممارسةٍ فعليةٍ يمارسها علينا. فـ (نؤمن) ببطلته ونقف في صفها دون فرضياتٍ أو مسلمات ، دون حكايةٍ أو حدثٍ أو معايشة أو حتى قسوةٍ أو تعذيب. هذا التفصيل مهمٌ بنظري و يمنحه عمقه الحقيقي على مستوى الحكاية التي لا تبدو مؤثرةً في قيمته المجملة قدر ما هي صنعته السينمائية. على عكس ما يحدث في رائعة دراير اللاحقة عن موضوع الإيمان و الشك Ordet .

من أجل توليد ذلك يستند الفيلم على العنصر الذي منحه قيمته و أهميته السينمائية : تفكيك العناصر التقليدية للصورة و إعادة تشكيل مفهوم الفضاء السينمائي. حجم التجريب الذي مارسه دراير على هذا الصعيد كان شيئاً عظيماً و استثنائياً بالنسبة لفيلمٍ ينتمي إلى تلك الحقبة. و لا أدري على وجه الدقة هل كان الفيلم التاريخي قد وصل حينها إلى المرحلة التي تستلزم إعادة تشكيله بصرياً و التمرد على نمطيته المعتمدة على بهرجة المكان و الصورة. دراير يلغي كل ذلك ، يقوم هنا بتفكيك علاقة العناصر بالفضاء السينمائي بحيث يسيطر العنصر على الفضاء بدلاً من أن يكون جزءاً من تكوينه. بدأ ذلك عملياً قبل هذا الفيلم. كثف دراير عمله على تعبيرية الوجه من خلال استخدام الـ Iris Shot و الكلوز آب ، لكنه لا يكتفي بذلك بل يعيد تفكيك العلاقة بين الوجه و الصورة مانحاً للوجه مساحةً أكبر و دوراً أكبر – إن لم يكن أوحد - في الفضاء. ثم قام بالإنتقال من وجهٍ إلى آخر لخنق الصورة. هذه البنية الجديدة القائمة على توظيفٍ مختلف للكلوز آب و اللقطة الألمانية و للـ Iris Shot (التي تمنح الصورة هنا قيمةً توثيقيةً عاليةً تجعلك كمشاهد و كأنما تنظر عبر فجوةٍ في التاريخ أو عبر صندوقٍ سحري) عُزّزَت من خلال المونتاج غير المتسق. و بالتالي عملت بفعالية على تحطيم ثبات الصورة و حركة العناصر ضمنها ، و هو تحطيمٌ تعبيريٌ على صعيدين : هو من ناحية ملائمٌ جداً لتجسيد حالة الإستجواب في المحاكمة التي يديرها النص و هي حالةٌ مقومها البصري الرئيسي هو تناوب اللقطات (طولاً و مساحةً و زوايا). و من ناحية هو يحقق أكبر تكثيفٍ ممكن للأداء التعبيري جداً الذي يقود دراير من خلاله بطلته. هذه العملية تخدم في الجوهر طبيعة الحكاية (التي لا تبدو مؤثرةً على الورق). فالعناصر المحدودة ضمن فضاء الصورة و الحركة المحدودة لتلك العناصر (و هي أمور موجودة أساساً في النص) تبدو خاماً ممتازاً لعملية التفكيك من خلال اعطاء مساحةٍ أكبر للكلوز آب و الكاميرا الثابتة و الإضاءة الطبيعية و العدد الهائل من اللقطات القصيرة التي قيل بأنها تجاوزت 1500 لقطة ، و بالتالي يفيد عمق النص في امرين : أولاً التناسب مع حالة الاحتجاز التي تعيشها البطلة و بالتالي يصبح احتجازاً قصصياً وبصرياً معاً. و ثانياً منح قيمة و اهتمام أكبر للحوار ضمن هذه الصورة المخنوقة يتيح للمشاهد الغوص في دواخل الشخصية و ملامسة ايمانها بصورةٍ كانت لتنتقص كثيراً لو لم تقدم بهذه الطريقة .

اعادة تشكيل الفضاء السينمائي بهذه الصورة المختلفة في الفيلم قائم في جوهر فكرته على تغيير حجم العنصر في التكوين السينمائي بالمقارنة مع فضاء الصورة. دراير يعمل من خلال الكلوز آب الذي يشغل ثلاثة أرباع لقطات الفيلم على منح قيمة تعبيرية عالية جداً لكل لقطة، مجسداً ربما العلاقة الأصعب و الأكثر خلوداً بين وجه الممثل و عين الكاميرا ربما في تاريخ السينما كله. يكاد ثقل الفيلم الحقيقي يستند على هذه الجزئية. كل لقطة في هذا الفيلم لها معنى بصري محدد. يعطيك الشعور تجاه خبث أحدهم في لقطةٍ متناظرة ينتصف فيها حجم الفضاء على يمين و يسار الوجه. يعطيك احساس العزلة في لقطة قريبة. يعطي الشعور بالإفتقار و الحاجة في لقطة يحتل فيها الصليب صدر المكان. يمنح حس التوق و الروحانية في لقطةٍ المانية. و حس الإنحسار في لقطةٍ لنصف الوجه. و حس السطوة في لقطةٍ بمستوى القدم. و حس الإضطراب في لقطةٍ ذرويةٍ مقلوبة. دراير يستفيد كثيراً من ولعه بالتعبيرية الألمانية لكن دون انقيادٍ اعمى ورائها. يغني افكارها بشكلٍ ملحوظ و يمنح لعلاقة فضاء الصورة بعناصر التكوين معنى مختلفاً و عبقرياً و سابقاً لعصره .

التجريب لا يتوقف عند مستوى تفكيك و إعادة تشكيل فضاء الصورة تعبيرياً كما ذكرت. دراير عمل أيضاً على تفكيك الإتساق البصري. و ربما كان في هذا الفيلم أعظم من فعلها حتى جاءت الموجة الفرنسية الجديدة. لا يقدم في هذا الفيلم - المتخم اللقطات - اتساقاً بصرياً لكل كادر مع الذي يليه. تدفق الكادرات شبه معدوم. طوال الفيلم يقطع دراير من لقطةٍ جانبيةٍ مثلاً للقاضي إلى لقطةٍ ألمانيةٍ للحارس إلى لقطةٍ أماميةٍ لجان دارك و هكذا. هو يتماهى على هذا الصعيد مع حس التشويش و الضياع الذي ينشده في جعلنا أقرب من بطلته. و هذا يمكن تحريه في عملية الانتقال الواضحة بين الثلث الأول من الفيلم الغني بالكلوز آب و الحوارات المكتوبة نحو الثلث الثاني حيث مرحلة الضغط و التعذيب التي تعطي اللقطات الطويلة و الواسعة للغرفة مساحةً أكبر تغني الشعور من ناحية بأن مرحلةً مختلفةً من الحكاية قد بدأت ، و تمنح الصورة من ناحيةٍ أخرى عمقاً أكبر من خلال توفر أكثر من عنصر ضمن الكادر أو انحسار مساحة العنصر الوحيد فيه ، و بالتالي انحسار جان دارك و الشعور بضياعها و ضئالتها و عجزها بصرياً وقصصياً في الثلث الثاني عوضاً عن الشعور بالحصار و الضيق الذي مارسه الكلوز آب عليها في الثلث الأول. و هذا التباين يبرز العمل الممتاز لدراير على توظيف نظرية المونتاج التي يلتزم بها و يطبقها وفق الكتاب في مرحلةٍ مبكرةٍ جداً لإنتشارها. كثيرٌ من لقطات الكلوز آب في الثلث الأول تشعر بأنها مكرورة أو أن دراير استخدمها أكثر من مرة ، لكن عمله البارع على نظرية المونتاج من خلال اللقطة الوسطى (اللقطة بين لقطتين متسقتين) يمنح لتلك اللقطات معنىً مختلفاً كل مرة وفقاً لسير الحدث. و ان كان هذا لا يعني اطلاقاً أن دراير تنكّر للميزانسين أو تجاهل قيمته و أهميته ، بل دعمه وفقاً للإطار البصري العام للفيلم ووفقاً لما هو متاح ، و الثلث الأوسط من الفيلم يثبت ذلك بوضوح. و من الطبيعي أن يراودنا الشعور بذلك التجاهل في فيلمٍ قائمٍ على اللقطات القصيرة الكثيرة و على العناصر الثابتة في الصورة لدرجة أن حركات الكاميرا في الفيلم معدودةٌ جداً بالرغم من كونها مميزةً جداً. و ان كان ذلك قد أضرّ الى حدٍ ما بقيمة الإخراج الفني العالية للفيلم و التي صممها العظيم هيرمان وارم (صاحب الاخراج الفني البديع لفيلم The Cabinet of Dr. Caligari) و الذي أبهرني عمله هنا و منحني احساس من يعيش قطعةً حقيقيةً من التاريخ و ليس مجرد فيلمٍ سينمائيٍ صامت بالرغم من المساحة الضيقة لبروزه .

و بالتأكيد روح هذا الفيلم هو الأداء العظيم من رينيه ماريا فالكونيتي. الممثلة المسرحية التي تقدّم هنا أدائها السينمائي الوحيد. فالكونيتي تقدّم ربما أعظم أداءٍ في تاريخ السينما الصامتة في مرحلةٍ كان من المبكر جداً الوصول معها الى هذا المستوى من التوحد و الإحساس بالشخصية. عملها مكثفٌ جداً على لغة عيونٍ فعالةٍ جداً رغم أنها لا تخلو من انفعالٍ أدائيٍ طفيف منبعه بالطبع التأثر الواضح لدراير بالتعبيريين. دراير كان قاسياً جداً مع فالكونيتي خارج التصوير كي يستخرج منها الشعور بالإضطهاد و القسوة التي تعانيها الشخصية بل أنه أصر على مشهد حلاقة الشعر بالرغم من توسّل فالكونيتي اياه لتجاوزه. أداء فالكونيتي يحمل على عاتقه الجزء الأكبر من غنى الشخصية (الغير مستند في الحقيقة إلى شيءٍ ملموس على الورق). نشعر مع فالكونيتي بتواضع جان دارك و بساطتها (كانت فلاحةً في الواقع) ، نلتمس ايمانها القوي ، ثقتها بمعتقدها ، غناها الروحي في مواجهة عجزها و ضعفها الآنيين ، و قلقها الدنيوي في مواجهة خوفها الديني. كل ذلك يصلنا دون أي تأسيسٍ حقيقيٍ للشخصية في الورق. عيونها كافيةٌ لكل ذلك. تتراوح بين الشعور بالترويع ، و تخيّل القادم ، و استذكار الماضي ، و الخوف ، و الرجاء ، و القلق ، و الصفاء الروحي. كوكتيل سخّر له دراير سيلاً من اللقطات القصيرة لإلتقاطه. و من الصعب فعلاً مشاهدة شيءٍ مماثلٍ لعملٍ أدائيٍ ينتمي الى حقبة الأفلام الصامتة .

قد لا يكون هذا فيلمي المفضّل لدراير. شخصياً أحب Ordet و Gertrud أكثر منه. لكنني أقر بأنه تجربته السينمائية الأكثر عبقريةً و ريادة. عندما تقيسه بنوعية الأفلام التي وصلتنا من تلك الحقبة لا تراه إلا مع نخبة النخبة. يقول جون كوكتو عن الفيلم بأنه (وثيقةٌ تاريخيةٌ من عصرٍ لم توجد فيه السينما). و بالتأكيد هو أيضاً واحدٌ من أكثر الأفلام أهميةً و تأثيراً في تاريخ السينما .

التقييم من 10 : 10


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters