•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2013

Aguirre, the Wrath of God

كتب : عماد العذري

بطولة : كلاوس كينسكي ، هيلينا روخو ، راي غويرا
إخراج : فيرنر هيرتسوغ

ميزة الأفلام العظيمة أو على الأقل تلك المهمة هي قدرتها على أن تبدو متجددةً ومختلفةً في كل مشاهدة. أن تجد فيها كل مرة شيئاً آخراً يجعلها أجمل وأهم في نظرك. حدث هذا معي في مشاهداتي الثلاث لهذا الفيلم. شاهدته أول مرة في اليوم ذاته مع رائعة جون بورمان Deliverance التي أطلقت في العام ذاته وجرت معظم أحداثها في نهرٍ أيضاً ! ثم شاهدته مرةً أخرى قبل عامين ، وأعدت مشاهدته يوم أمس. هذا فيلمٌ مقاومٌ للزمن .

كان هذا العمل الفيلم الروائي الطويل الثالث في مسيرة ابن الثلاثين ڤيرنر هيرتسوغ ، الذي ما لبث أصبح (مخرج القارات الست) وأحد أهم رموز السينما الألمانية الجديدة رفقة ڤيم ڤيندرز و راينر ڤيرنر فاسبندر ، وكان الثمرة الأولى لتعاونٍ طويل الأمد جمعه بالممثل غريب الأطوار كلاوس كينسكي استمر في اربعة اعمالٍ أخرى هي الأهم في مسيرة كليهما. كان كينسكي ممثلاً موهوباً لكن في أفلامٍ متواضعة القيمة ، وكان هيرتسوغ مخرجاً موهوباً افتقر عملاه السابقان لنقاط القوة الصريحة التي تنقله لمرحلة اعتراف الآخرين بموهبته. وكانت هذه التجربة المجنونة اللقاء الذي كامَل به الرجلان بعضيهما ، والضربة التي جعلتهما في واجهة المحافل السينمائية في العالم .

يصوّر الفيلم - اقتباساً عن مذكراتٍ غير حقيقيةٍ يدّعي انها كتبت من قبل القس غاسبار دي كارفاخال - قصة الرحلة المشؤومة للمستكشف الأسباني غوانزالو بيزارو وبعثته المنهكة الموشكة على الإنهيار والاستسلام في مسعاها نحو ذهب أميركا اللاتينية. تتوقف البعثة في غابات البيرو الموحشة ، ويقرر الرجل اختيار فرقةٍ من أربعين رجلاً للمضي في تقفي علامات (إلدورادو) ، مدن الذهب الأسطورية السبعة. في قيادة الفرقة ثلاثةٌ من كبار القوم : بيدرو دي أورسوا وفرناندو دي غوزمان ولوب دي أغيري. تسافر البعثة عبر طوافاتٍ نهريةٍ نحو الدورادو ، محاصرةً بسكان البلاد الأصليين وبخطر الأوبئة ونقص المئونة وبأطماعهم الذاتية التي تفتك بهم عندما يسيطر أغيري على قيادة البعثة المنهكة ويقرر المضي بها نحو جنونه المحض .

في الظاهر تبدو الحكاية مثاليةً لفيلم مغامراتٍ تقليدي. في العمق، العمل أبعد ما يكون عن ذلك ، هو أقرب لصورةٍ سرياليةٍ ممسرحة في الكثير من تفاصيلها عن المجتمعات الوليدة. تبدو فكرة تقديم عمل باللغة الألمانية عن شخصياتٍ أسبانية في أميركا اللاتينية فكرةً مسرحيةً تماماً ، خصوصاً وأن هيرتسوغ ينأى بنصه تماماً عن الوقوع في التقليدية المفترضة كفيلم مغامرات في غابات الأمازون ويبنيه على الكثير من المسرحية الصارخة ، بدءاً بأسلوب تقديم شخصياته مطلع الفيلم والارتكاز المكثف على صوت الراوي (غاسبار دي كارفاخال الذي يدّعي النص أنه رافق تلك البعثة) وانتهاءًا بالكسر المتكرر لما يعرف بالـ Forth Wall حيث يتوجّه أبطال الفيلم في أكثر من مناسبة نحو الكاميرا مباشرةً في حواراتهم. مسرحة الحدث هذه ليست عبثية بل تبدو معالجة مُثلى لروح النبوءة والإيحائية العالية التي يقوم عليها الحدث. جودة هذا النص تتفرع في منحيين رئيسيين : الأول يكمن في تقديم أغيري كشخصيةٍ محور وهو تقديمٌ غير مرهق على خلاف ما تفترضه التحولات الدرامية العنيفة للحكاية. منذ اللحظة الأولى لا يبدو أغيري شخصيةً سويةً بالنسبة لنا ، وشعورنا بكونه شخصيةً شريرةً لا يخطىء منذ الظهور الأول بفضل أداءٍ مقنعٍ ومتفهم من كلاوس كينسكي. ما يعمل عليه هيرتسوغ في هذا المنحى هو فقط محاولة صنع تحول خاضع للمنطق لدى تلك الشخصية من قوقعة القوة النسبية الى أسر القوة المطلقة التي تستحوذ عليها وتدفعها الى الجنون في ختام الفيلم، وهو ينجح بإمتيازٍ في ذلك ، وربما سيتذكر المشاهد بسهولة – مهما اختلفت وجهة نظره في العمل ككل – كم الجنون الذي سيجده في شخصية أغيري مع تقدم الحدث. في المنحى الآخر يستند الفيلم – في أعظم نقاط قوته – على تجنب الدفع بالحدث أو توجيهه أو وضع مفاصل اصطناعيةٍ له ، وجعلنا - كمشاهدين - رفاقاً لتلك الرحلة من خلال تسليمنا بصرياً لها. إحاطتنا بصرياً بهذا النهر وبتلك الغابات وجعلنا نتمسك بتلك الطوافات كطوق نجاةٍ وحيد. جميع ما يحيط بنا عندما نرافقهم يخنقه هيرتسوغ من خلال كاميراه مبرراً – بصرياً – لما سيحدث على متن تلك الطوافات لاحقاً. في الوقت ذاته، لا يتيح هيرتسوغ لشخصياته الحركة بأريحيةٍ على متن تلك الطوافات ، ممسرحاً الحدث ودافعاً به لتجسيد صورة النبوءة ومستخلصاً من الحدث عبرته بصورةٍ شبه مباشرة. نراه يقطع من حينٍ لآخر على لقطةٍ واسعةٍ للطوافة في قلب ذلك النهر وكأنما يذكرنا بمسرح الحدث كلما نسينا. وبالتالي، تسلّيم الحدث لخيال المشاهد أكثر من جعله يرتكز الى حبكة ، الأمر الذي يخلق بسهولة أكبر احساس اللعنة التي أصابت تلك الحملة والموت الذي لفّها وأحاط بها من كل جانب. هذا من ناحية ، ومن ناحيةٍ أخرى لا يجعل هيرتسوغ الحدث بحد ذاته هدفاً ، وهنا بالذات يكمن تطور تقديري للفيلم بين مشاهدةٍ وأخرى. لا يركز هيرتسوغ على ردود الفعل قدر اهتمامه بالعواقب. نرى الطوافة تعلق في الصخور فلا يبدو لنا رد الفعل انفعالياً أو متناسباً مع سبعة أشخاصٍ – من أصل أربعين – يوشكون على فقدان حياتهم ! يقتلهم الهنود لاحقاً فلا يتغير الكثير ! ثم يفجّر أغيري الطوافة بما عليها من جثث فلا نحصل على رد فعلٍ تقليدي كما هو مفترض ! هذه الجزئية تحديداً هي المشكلة الجوهرية لدى الكثيرين في تقبّل الفيلم ككل. هناك فجوة – متعمدة جداً برأيي – بين الفعل ورد الفعل ، مردّها أن فيلم هيرتسوغ أساساً - كحال أفلامه اللاحقة أيضاً - لا يقوم على ردود الفعل تجاه الحدث قدر ما يقوم على التبعات والعواقب المترتبة على ذلك الحدث ، وبالتالي أزليته وتاريخيته عوضاً عن لحظيته وراهنيته. حتى في طريقة تجسيد هيرتسوغ للموت بصرياً نراه يقدمه خاطفاً أو صامتاً أو خارج الكادر. لا يجعل حدوث الموت بحد ذاته مهماً قدر اهتمامه بالعواقب التي ستترتب عليه. تفهّم هاتين الجزئيتين (مسرحة الحدث ، وتقديم عواقب الحدث على ردود الفعل تجاهه) محوريٌ جداً في تقبل العمل وفهم الحالة النبوئية التي يحاول تجسيدها - كمسعى أسلوبي معتاد في سينما هيرتسوغ - تأخذ معانٍ أكثر عمقاً بكثير مما يعطيه ظاهرها. يذهب هيرتسوغ هنا عميقاً في رسم ملامح نشوء المجتمعات. المستبد هنا هو شخص يحكم أناساً أكثر قوة منه ! يخضعون له وفقاً لقوة افتراضيةٍ غير حقيقية ولتسلسلٍ قياديٍ لا يوجد من يحكمه ويشرف عليه وفي ظرفٍ لا يتيح لأي عقدٍ إجتماعيٍ مراقبة ذلك الخضوع أصلاً ! هم لا يختارون أغيري لقيادتهم ولو سنحت لهم فرصة الاختيار فلن يختاروه حتماً ، ومع ذلك هم ينساقون له ! وهنا تكمن قيمة هذا العمل و عظمته. نظرةٌ عميقةٌ جداً في سيكولوجية الإحساس بالقوة ، وفي إنفراط العقد الإجتماعي السائد والتأسيس لآخر جديد. نشاهد قائد البعثة جريحاً ومعزولاً ومشنوقاً ، نستمع إلى الأمير الهندي الأسير وهو يقول (كنت أميراً في هذه الأرض ، لم يُسمح لأحدٍ بالنظر مباشرةً في عينيّ ، والآن أنا مقيّدٌ مثل شعبي ، وعليّ أن أحني رأسي) ، نشاهد النبيلة آينز تلتجيء الى رجل الدين لمساعدتها فيخبرها (لطالما كانت الكنيسة بجانب الأقوياء) ، ونشاهد غوزمان (الأرفع نسباً ونبلاً) يتوّج امبراطوراً - كواجهةٍ لحكم أغيري - ليعيش رفاهيةً عبثية بينما رجاله يوشكون على الموت : يحلق ذقنه ويدلّك جسده ويجلس لتناول وليمةٍ بينما رجاله يعدّون آخر حبوب الذرة لديهم ! نشاهده يعفو عن السيد الذي سبقه قبل أن يشنقه أغيري في أول فرصةٍ تتاح له ! كل هذا يحدث في صورةٍ سرياليةٍ ممسرحة فيها تجسيدٌ صارخٌ ومدروس لإنفراط العقد الإجتماعي ولمحاولة مجتمعٍ وليد على المضي قدماً من خلال عقدٍ إجتماعيٍ هش وحيد الإتجاه سرعان ما ينقلب نقمةً على متعاقديه .

ولأن كل ذلك مستندٌ في جوهره لقدرة هيرتسوغ على تجسيد روح النبوءة / اللعنة التي تمنح العمل ككل قيمته الرفيعة وتُخرجه خارج الاطار التقليدي لفيلم المغامرات ، تبقى أدوات هيرتسوغ هي أساس عظمته. التوظيف الذي لا تخطئه العين للطبيعة واللقطات الواسعة التي يستخدمها بسخاء من أجل أسر جمالها ، وحس التوثيقية العالي الذي جعل الرجل لاحقاً واحداً من أفضل صناع الأفلام الوثائقية في العالم ، عنصران يستثمرهما هيرتسوغ بفعالية لخدمة روح النص ويبدو أثره في تجسيد العبثية وروح النبوءة واضحاً برأيي في اقتباس فرانسيس فورد كوبولا لرواية Heart of Darkness التي صنع منها تحفته Apocalypse Now بعد ذلك بسبعة أعوام. توليف هذين العنصرين ينتج ملحمةً بصريةً مكتملة وقوية الشخصية وواحدةٌ من أنقى وأعظم التجارب البصرية التي قدمتها السينما. تصوير الفيلم في أماكن الحدث الحقيقية وضمن ظروفه الحقيقية ، وحمل الكاميرات والممثلين على طوافاتٍ غير مؤمّنة والاستسلام لجنون ذلك النهر ، والإسترسال في صناعة ذلك العمل وسط مخاطر جمةٍ كالغرق أو التعرض للحيوانات المفترسة أو الإصابة بالأمراض ، كل ذلك صنع تجربةً سينمائيةً متفرّدة قاربها هيرتسوغ في جنونها عندما حقق Fitzcarraldo لاحقاً. تصوير هذا الفيلم تخمةٌ بصريةً ، ابتداءًا باللقطة المهيبة التي تفتتح هذا الفيلم لبعثة بيزارو التي تسير عبر جبال الأنديز ، مروراً بالحميمية العالية التي يأسر من خلالها مدير التصوير توماس ماوخ في كادراته وحركة كاميراه جمال الطبيعة الفاتن ووحشتها القاتلة في آن ، الأمر الذي يولّد حسّ معايشةٍ عالٍ بين المشاهد والبعثة وينقله ليكون شريكاً لها فيما تفعل ، وصولاً بالطبع لحس الجنون البصري الذي يولده من خلال الكاميرا المحمولة والطريقة التي يزاوج فيها بين اللقطات الواسعة لوحشة النهر والغابات واللقطات المقربة للشخصيات على متن الطوافة والمأزق الذي يختبره في وجوههم ، خالقاً احساساً طبيعياً بالورطة التي وضعتهم على أول حافة الهاوية ، وهو احساسٌ يدعمه كثيراً العمل الموسيقي العظيم لفلوريان فريكه الذي يبدو في البداية أشبه بأصوات كورال لا تلبث تدرك أنه عزفُ آلاتٍ موسيقية. توليفةٌ بصريةٌ/سمعيةٌ روحانيةٌ جداً تُغذي عمق النص عن طمع الإنسان وقسوته ووحشيته يعززها ويُغنيها وجه كلاوس كينسكي الذي لم يحدث – حتى وهو يؤدي نوسفيراتو مع هيرتسوغ بعد اعوام - أن كان مرعباً كما كان في أغيري .

هذا فيلمٌ من النوعية التي ذكرتها في مقدمة حديثي. تصويره لإنهيار الرجال وضعفهم والخواء الذي يستعمرهم في رحلتهم نحو القوة والسطوة عظيم ، وتجسيده لصورة المجتمعات الناشئة التي تتفكك بالأحادية ورهبة الذنب والخوف من المجهول وهشاشة العقد الإجتماعي الذي أنشأته يجعله فيلماً لا يشيخ أبداً .

التقييم من 10 : 10


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters