•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الجمعة، 21 يونيو 2013

City Lights

كتب : عماد العذري

بطولة : تشارلي شابلن ، هاري مايرز ، فيرجينيا تشيريل
إخراج : تشارلي شابلن

لفترةٍ طويلةٍ من الزمن كنت أعتبر هذا الفيلم أعظم الأفلام الصامتة. لم يتغير الكثير منذ ذلك الحين ولا أتذكر انني شاهدت بعدها الكثير من الأفلام الصامتة التي تضاهي قيمته ومكانته. صحيح أن المرء يميلُ أكثر الى تغيير بعض آرائه السينمائية من حينٍ لآخر كجزءٍ من الطبيعة البشرية ، لكن هذا الفيلم بقي مع مرور الزمن أحد الثوابت بالنسبة لي. بعيداً عن أي تراتبية : ما يزال قيماً ومشرقاً وعظيماً جداً بعد ثمانية عقود .

ما يزيد هذا الفيلم قيمة هو أنه جاء في ذروة الإنفتان الجماهيري بالسينما الناطقة. ليس في البدايات عندما فاجأهم حضورها ، وليس بعد عقود عندما اعتادوا وجودها ، بل في الذروة ! في اللحظات التي أفاق فيها الجمهور من نشوته وأغلق فمه المنفغر انفتاناً بالصورة الناطقة وبدأ يتحرر من ابهار الحوار المنطوق ليغوص أكثر بحثاً عن القيمة الفنية في العمل. تلك الفترة التي تخلت فيها النوعية الجديدة عن أن تكون مجرد فورةٍ عابرة لتصبح شيئاً راسخاً ولا مناص منه وقالباً جديداً يجب العمل وفقاً لطقوسه. كانت فترةً محوريةً فعلاً ، خصوصاً عندما يصر البريطاني العبقري - والذي حقق نجاحاً ملموساً في أعماله الصامتة - على تكرار تجربته للمرة الثانية في انتاج فيلمٍ صامتٍ في حقبة الأفلام الناطقة ! حقق نجاحاً ملموساً في تجربته الأولى The Circus وأراد أن يستمر بعدها في طريقه كما يراه. كان شابلن يرى في الأمر تمسكاً بـ (الأداة) الملائمة لتقديم مادته السينمائية وليس مجرد حنينٍ أو تشبثٍ بالحقبة التي صنعت اسمه وشهرته كحال الهزة الشديدة التي اصابت عدداً من معاصريه الذين تراجعت اسهمهم وعاشوا يجرون ورائهم ذكرياتهم عن ماضي النجومية التي سحقها الحوار المنطوق. شابلن لم يكن كذلك وهذا برأيي هو أهم جزءٍ في عظمته. كان يبحث فقط عن الوسيلة الملائمة - كل مرة - لتقديم المادة السينمائية ووجد إجابته - مع هذا الفيلم تحديداً - في السينما الصامتة. لم يحقق من خلاله فقط تحفته السينمائية الأعظم ، بل انهى معه مرحلةً شكّلت المساحة الأكبر في مسيرته الطويلة قبل أن يتقدم بعدها بحذر في اتجاه السينما الناطقة ، فغنى بصوته في فيلمه التالي Modern Times ، وقدم الخطبة السينمائية الأشهر في The Great Dictator ، ثم ثلاثة أفلامٍ ناطقة غيرها ، مؤكداً لمعاصريه أن عبقريته وقدرته على التجدد لم تكن لتتأثر بالظروف أو التقنية أو الإمكانات أو الزمن ، يكفي أن يشاهدوا أفلامه اليوم بعد ثمانية عقود ليتأكدوا من ذلك .

القصة عن متشرد شابلن مجدداً ! هذه المرة مع بائعة زهورٍ عمياء تعتقد بعد سلسلةٍ من الأحداث والمفارقات أن المتشرد هو مليونير كريم يحاول مد يد العون اليها ، خصوصاً عندما يترافق ذلك مع افشال المتشرد محاولة انتحار لمليونيرٍ محبط أثناء حالة سكر. سرعان ما يصبحان صديقين تلك الليلة ثم يتلاشى كل ذلك مع استفاقة المليونير ! هذه العلاقة المتواترة تقود المتشرد للتفكير في استغلالها وأخذ المال الكافي من المليونير لإجراء عمليةٍ جراحية تعيد البصر لبائعة الزهور العمياء !

شابلن هو كل شيءٍ في هذا الفيلم ! كتبه وأنتجه وأخرجه وحرره وكتب موسيقاه وقام ببطولته ! صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يفعل فيها ذلك ، لكنها على الأقل المرة الأعظم. في هذا الفيلم يواصل شابلن هجاءه للمجتمعات المعاصرة ضمن توليفة الكوميديا الخاصة التي أجادها حتى اقترنت بإسمه. يصور من خلال هذه الصورة الكوميدية نقده لنمطية المجتمع المدني الحديث ولمتشرده الضائع في زحامه ، دون ان يبدو حتى بأنه (يحاول) فعل ذلك. متشرد شابلن كالعادة : وحيدٌ دون أسرة أو اصدقاء أو عمل أو مكان أو حتى حلم ! نطارده من مكانٍ لآخر في المفارقات الطريفة التي تشكل يومياته. صديقته العمياء لا تختلف عنه اجتماعياً لكنها على الأقل تمتلك منزلاً وعائلة ومورد رزقٍ بسيط. على الطرف الآخر نشهد حفلات المليونير البائس وشقاءه مجهول السبب وميله الدائم للإنتحار. شابلن يرمي ذلك في الخلفية البعيدة للصورة بذكاءٍ يستحق الإشادة ودون أن يجعل تلك الخلفية البعيدة محدودة الأثر في تشكيل مفاصل الحكاية ، على الأقل من خلال تصويره للبون الإجتماعي بين عالم المتشرد وعالم صديقه المليونير ، أو من خلال التباين بين ثريٍ لا يجد في حياته الا الشقاء فيحاول الإنتحار أكثر من مرة ، وفقيرين أحدهما متشرد والآخر أعمى لكنهما يعيشان حياتهما بسعادةٍ و اشراق. هذا التفصيل مقدرٌ جداً في سائر أعمال شابلن ، لكنه هنا يضرب في صميم الحبكة ويغذيها بفعالية. لا نحتاج للكثير من الكلام أو للكثير من المواقف المغرقة في الرومانسية لندرك أن المتشرد يهيم بتلك الشابة العمياء عشقاً ! يكفي أن تتأمل المآزق التي وضع نفسه فيها ، وعقوبة السجن التي طبقت عليه لأشهر لتدرك حجم ما يحركه تجاهها. وعندما تراهُ وتتحسسُ يديه وتدرك أنه هو – في واحدةٍ من أعظم النهايات السينمائية على الإطلاق - ندرك قيمة أن يصنع هذه اللحظة تحديداً شخصان فقيران لا يملكان في هذا العالم سوى قلبٍ مفعمٍ بالحياة ، وندرك أن شابلن لم يصر على تقديم هذا العمل الصامت في حقبة السينما الناطقة الا ليقينه بأن هذه الحكاية لا يمكن تقديمها الا بهذه الطريقة. هو يصيب من خلال ذلك الصمت صميم العمل وروحه ويؤكد على قيمة التحدي الذي وضعه لنفسه في الحقبة الجديدة من خلال جوهر عمله هذا القائم على الأحاسيس الداخلية المتوارية التي قد يجعلها الحوار المنطوق أقل قيمةً وتأثيراً. توظيف الصمت هنا ليس تمرداً تقليدياً على الحوار المنطوق وانما هو اثباتٌ عظيم على قدرة الصمت على التعبير عن البواطن وما تحت السطور. لذلك يبدو الفيلم وكأنما لا يمكن كتابته الا ليقدم بهذه الطريقة ، وقطرة حوارٍ منطوقٍ واحدة ربما كانت كافيةً لخدش جماله وكبريائه وسرقة جل البريق الذي يكتسبه. شابلن يستنطق في عصر السينما الناطقة قوة الصمت ولغة الإشارة والجسد ليولد أثراً عظيماً ولا يمحى عن القوة الداخلية للإنسان وعظمة روحه وتصالحه مع نفسه حتى عندما لا يمتلك شيئاً !

شابلن كان عظيماً في هذا الفيلم. عظيماً في تصديه لكل شيءٍ بنفسه ، وعظيماً في مزاوجته الكوميديا والرومانسية منتجاً برأيي أعظم كوميديا رومانسية ربما في كل ما شاهدت ، وعظيماً في التقاطه الحساس للطريقة التي من المتوقع أن يتلقى بها الجمهور تلك الأحاسيس المبطنة بين بائسين يجدان في بعضهما الأمل وحب الحياة ، وعظيماً في توظيفه الميلودراما مع الأداء الإيمائي المدروس لخلق هذه الحالة الفريدة من الشجن والبهجة والشعور الجيد لدى مشاهده ، وعظيماً أن أصر فوق كل هذا على صنع كل ذلك وفقاً لطقوسه القديمة في اللحظة التي كان العالم يفتح ذراعيه عن آخرهما معانقاً سينما الحوار المنطوق. لم يحقق هنا فحسب واحداً من أعظم الأفلام الصامتة ، بل أيضاً واحداً من أعظم الأفلام في تاريخ السينما حتى بعد أكثر من 80 عاماً على اطلاقه. أورسون ويلز و فديريكو فيلليني و روبير بروسون اعتبروه الأعظم ، ولأنهم من هم لا نستطيع أن نلومهم على ذلك !

التقييم من 10 : 10


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters