•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الخميس، 4 أبريل 2013

Unforgiven

كتب : عماد العذري

بطولة : كلينت ايستوود ، جين هاكمان ، مورغان فريمان
إخراج : كلينت ايستوود

بالنسبة لي ارى كلينت ايستوود أفضل الممثلين الذين تحولوا للإخراج السينمائي ، لا أقصد بهؤلاء اولئك الذين بدأوا بالعملين معاً أو بفارقٍ قصيرٍ بينهما و وجدوا الشهرة فيهما في الوقت ذاته مثل أورسون ويلز و شارلي شابلن و بستر كيتن ، بل اعني أولئك الذين استهواهم الوقوف وراء الكاميرا بعد فترةٍ من العمل أمامها حققوا أثناءها نجاحاً ملحوظاً و صنعوا لأنفسهم اسماً مهماً كممثلين ، أذكر منهم وارن بيتي و روبرت ريدفورد و جورج كلوني و بن أفليك ، كلينت ايستوود هو أفضلهم جميعاً .

مرّت مسيرة إيستوود في الواقع بثلاث مراحل رئيسية ، الأولى كانت مع سيرجيو ليوني عندما قاده الإيطالي الكبير لطرق باب النجومية من خلال قيامه ببطولة ثلاثية السباغيتي ويسترن في الستينيات من القرن الماضي ، و الثانية كانت مع دون سيغل من خلال شخصية المحقق هاري كالاهان التي بدأت بكلاسيكية أفلام الشرطة Dirty Harry عام 1971 و إستمرت في أربعة أفلامٍ أخرى أخرج ايستوود أحدها ، و الثالثة كانت بالتحول الإنبعاثي في مسيرة كلينت إيستوود الإخراجية التي بدأت منتصف السبعينيات و حقق فيها على مدى عقدين كاملين نجاحاتٍ مهمةً في أفلام High Plains Drifter و The Outlaw Josey Wales و Pale Rider و غيرها و التي كانت مع ذلك بحاجةٍ للإنتظار حتى مطلع التسعينيات لتجعل مسيرة الرجل تبدو مختلفةً عما بدت عليه سابقاً ، ربما وجد الرجل في نفسه القدرة على ادارة النصوص و ادرك ربما بأن بريق النجومية لن يلتصق به للأبد ، و أن استمراره في اعمال الإثارة و الأكشن بحاجة لإعادة النظر مع اقترابه من الستين ، هنا وجد الرجل أن الوقت قد حان لتقديم نص السيناريست ديفيد ويب بيبلز الذي كتبه عام 1976 و اشتراه إيستوود مطلع الثمانينيات و انتظر حتى يصبح عجوزاً بما فيه الكفاية ليناسب شخصية وليام ماني ، و عندما وجد بأنه صار مستعداً لذلك مطلع التسعينيات اعتزم أن يحوّل أخيراً هذا النص الى عملٍ سينمائيٍ يكون الأخير في مسيرته الإخراجية و التمثيلية ، أنجزه خلال فترةٍ قياسيةٍ بالنسبة لعمل ويسترن يحتاج لبيئةٍ خاصةٍ للتصوير و الإنتاج ، و حقق من خلاله وداعه للفن السابع عندما أهداه لصديقيه و معلّميه و رمزي مرحلتيه السابقتين (سيرجيو و دون) ، و كان سعيداً بكم الاحتفاء الذي قوبل به ، و بكسر حاجز المائة مليون دولار للمرة الأولى في مسيرته كممثل ، أعاده الفيلم لواجهة هوليوود مجدداً ، نفض الغبار عن صنف الويسترن و أعاد تلميعه بعد عامين فقط على فوز Dances with Wolves بأوسكار أفضل فيلم ، رشّح لتسع جوائز أوسكار ، و وقف على قمة العالم عندما أصبح ثالث فيلم ويسترن على الإطلاق يفوز بأوسكار أفضل فيلم ، هل نهايةٌ كهذه تستحق أن تتوقف عندها مسيرة الرجل الإخراجية ؟!! بالطبع لم يحدث هذا ، مسيرة ايستوود انبعثت من جديد .

حكاية الفيلم تعود لأواخر القرن التاسع عشر ، في أميركا التحولات العظيمة ، حيث ويليام ماني رجل الغرب الذي طبقت شهرته الآفاق يوم كان لصاً و قاتلاً لا يرحم ، ترك الآن كل شيءٍ من أجل زوجته كلوديا التي رحلت نتيجة اصابتها بالجدري و تركته مع ولديه في مزرعة الخنازير المتهالكة التي يديرها ، ماضيه يطل عليه من جديد عندما يغريه فتىً يدعى سكوفيلد كيد للإنضمام اليه و خطف مكافأةٍ بألف دولار لمن يأتي برجلين قاما ذات يومٍ بتمزيق وجه امراةٍ من عاهرات بلدة بيغ ويسكي التي يديرها بقبضةٍ من حديد الشريف ليتل بيل .

عظمة هذا النص برأيي تكمن في ثلاثة جزئيات : الأولى هي قيمة و قوة الشخصيات التي يقدمها و علاقتها بالطقوس التقليدية لشخصيات أفلام الويسترن ، و الثانية تتعلق بسبره الذكي لقيمة العدل و الحق في بيئة الويسترن التي لا ترحم ، و تتجلى الثالثة في التعامل الذكي مع الخصوصية الحضارية و البيئية و الاجتماعية لأميركا التحولات العظيمة ، في واجهة الحكاية هناك ويليام ماني ، الرجل الذي قتل تقريباً كل شيءٍ سار يوماً على الأرض ، الرجال و الشيوخ و النساء و الأطفال و الحيوانات ، كان قاتلاً لا يرحم ، لم تكن له مباديء و لم يتصوّر أن يكون ، عاش مرتزقاً لمن يدفع الثمن ، لكنه تنازل عن كل ذلك من أجل امرأته كلوديا التي يقول بأنها (عالجته من الشراب و الشر) ، ويليام ماني احب امرأته بجنون ، و أحبته امرأته بجنونٍ أيضاً ، فاق حبهما استيعاب والدة كلوديا التي اندهشت كيف لحسناء مثل ابنتها ان تترك كل الرجال من أجل ويليام ماني ، و عندما رحلت كلوديا في التاسعة و العشرين من عمرها لم يكن ويل هو من قتلها بل الجدري ، تركته مع ولديه في مزرعة الخنازير المتهالكة ، حالته المادية يرثى لها و ماضيه الذي رماه وراء ظهره يعود من جديد في صورة المكافأة التي تعرضها عاهرات بلدة بيغ ويسكي ، يقدم له سكوفيلد كيد عرضه هذا من خلال استفزازه للقيام بالمهمة أو بما يحاول أن يقنع نفسه بأنه استفزاز له : مقدار التشويه الذي تعرضت له تلك المرأة و مصدر رزقها الذي قضي عليه الآن ، نعم يستفزه هذا لكن حالته المادية السيئة تستفزه أكثر ، هو فاشلٌ جداً في ادارة مزرعته التي تبدو و كأنما تحتضر ، مغازلة سكوفيلد للجانب الإنساني في المهمة و للجانب المادي أيضاً تغري ويليام ماني ، لم يعد لديه الكثير ليخسره ، صحيح أن تلك الأيام قد ولت و أنه لم يعد ماهراً في التعامل مع الأسلحة أو حتى في الصعود على ظهر جواده ، لكنه مثلما وعد زوجته بالتخلي عن ماضيه ذاك وعدها أيضاً برعاية أولادهما ، و 500 دولار في هذا الوقت ستعني الكثير للعائلة و لرعاية الأولاد ، لذلك هو يلعب على ذات الوترين ( الإنساني و المادي ) ليقنع صديقه نيد لوغان بالمهمة ، يخبره بأنه سينال ثلث الغنيمة ، و يخبره بما فعله الرجلان بتلك المرأة و بمبالغةٍ شديدة ليستفز مشاعره و ينال عطفه ، تبدو الصورة التي يقدمها النص هنا مختلفةً في الكثير من ملامحها عن الصورة التقليدية لأبطال الويسترن ، ليتل بيل في الجانب الآخر هو ميزانٌ دقيقٌ جداً بين رجل القانون و العدالة و الإنسان المتحضّر و الخصم الذي لا يرحم ، قد لا يروقنا تهاونه في تحقيق العدالة عندما يحكم للعاهرات بسبعة خيولٍ عوضاً عن محاسبة الفاعلين ، لكننا سرعان ما نستشف فيه رغبة جلب الإستقرار و الهدوء لبلدته الصغيرة ، يُمضي وقته في بناء منزله ، رجاله يرحبون بجميع الوافدين الى البلدة شريطة ألا يحملوا أسلحتهم ، يبدو بالرغم من صورته كخصم رجلاً ملتزماً جداً ، و بالنسبة لي هذا أكثر ما أقدره في هذا النص ، شخصيات الفيلم مختلفة عن كل ما شاهدنا في أفلام الويسترن ، شريف البلدة يُقدّم لنا هنا كشخصيةٍ شريرة أو على الأقل ليست نصيرة المشاهد ، و بالمقابل ويليام ماني الذي يُفترض أن يكون بطلنا هو رجلٌ يعاني الكثير من التناقض الأخلاقي بين ما يقوم به الآن و ما يعتقد بأنه قد ارتآه لنفسه طوال ما بقي من حياته ، رجلٌ يقاوم ماضيه – كحال صديقه نيد لوغان – لكنه ينزلق فيه مجدداً دون أن يدري ، النص يقدم الصورة المعكوسة للإطار التقليدي لشخصيات افلام الويسترن ، يقلب المعادلة التقليدية دون حتى أن يُشعرنا بذلك و دون حتى أن يجعلنا نفكر بأن ويليام ماني هو في الأساس لصٌ و سفاحٌ و قاطع طريق بينما ليتل بيل هو شريف البلدة و الرجل المسئول عن تطبيق العدالة و القانون فيها ، و هذا الإنقلاب الذي يُحدثه لا يسلك المسلك الحدي اطلاقاً بل يبقى على الحد الفاصل بين الهلامية و الحدية بخصوص شخصيتيه اللتين يمكن لو ارتددنا قليلاً الى الوراء أن نراهما بطريقةٍ مختلفةٍ عما تبدوان عليه في سياق الحدث ، هذا عظيم الأثر و لا يمكن القفز أو الالتفاف على قيمته في تجسيد صورةٍ مختلفةٍ للبطل في أفلام الويسترن و صورةٍ مختلفةٍ للخصم أيضاً .

من خلال ذلك البناء الذكي للشخصيتين يرسم النص معاني العدالة و الحق و قيمة اراقة الدماء في المجتمع القاسي للغرب الأميركي ، يجعلنا باكراً جداً نشهد عقوبةً توقّع بحقٍ رجلين أحدهما لم يرتكب شيئاً سوى أنه كان في المكان الخطأ مع صديقه ، و نشهد رجلاً يمزق وجه امرأة لم ترتكب ما هو أكثر من أن ابتسمت ساخرة منه ، و نشهد حكماً غير عادلٍ من قبل شريف البلدة الذي لا يريد أن يرى المزيد من الدماء في بلدته ، ثم نشهد مكافأةُ غير عادلة تعرضها مومسات بيغ ويسكي لمن يأتي برأسي الرجلين ، نرى ويليام ماني يحقق لهم عدالتهم النسبية ، و نرى ليتل بيل يقف بقسوة في وجه من يهتك حياء بلدته ، و نرى نيد لوغان يدفع الثمن ، ثم نشهد اللحظة التي يجعل فيها ويليام ماني الشريف ليتل بيل يدفع ثمن حياة نيد لوغان ، صورة عظيمة و غير معتادة في أفلام الويسترن لمتواليةٍ استثنائيةٍ من العنف و عواقب العنف و مفهوم العدالة في بيئةٍ كهذه ، لا يوجد في هذه المتوالية أي تصرفٍ قاد الى ما يكافئه ، كل التصرفات قوبلت بما هو أقسى منها أو بما هو أضعف منها ، هذا الخلل في التوازن بين الفعل و عاقبته يخلق متواليةً لا تهدأ من العنف لا تخرج معها برؤيةٍ واضحةٍ عمّن كان يستحق ما جرى له و من كان لا يستحق ذلك ، يقدم سحر و غموض أخلاقيات الغرب و معاييره غير المفهومة في بيئةٍ تقف على الحد الفاصل بين الرموز القديمة للشرف و الحق و العدالة بمفهوم بربرية الويسترن و بين المعاني الجديدة لتلك المفاهيم في المدنية الجديدة التي تقف البلدة على أعتابها .

من خلال هذا الإنقسام يذهب النص بعيداً في تجسيد صورةٍ غير اعتياديةٍ في افلام الويسترن لأميركا التحولات العظيمة ، في بيغ ويسكي يجاهد الغرب بكل بربريته و وحشيته للحفاظ على هويته في مواجهة الزحف الحضاري لأميركا الجديدة ، باكراً جداً نرى عاهرات بيغ ويسكي يلجأون للشريف ليتل بيل (القانون) لحل المشكلة التي حدثت ، لا يروقهن ان تُعوّض دليلة بسبعة خيولٍ بدل وجهها المشوه ، لذلك يعرضون مكافأةً بألف دولار لمن يأتي بالرجلين ، تتجلى من خلال هذه اللوحة العبقرية صورةٌ لمرحلة البحث عن التعويض (قانونياً) قبل اللجوء الى الطرق الخاصة في ايجاده بالقوة و هي المرحلة الأكثر حسماً في تطور سيادة القانون عبر العصور عندما تقبّل الإنسان المتحضر تطبيق العدالة من قبل الدولة لكنه بقي يحن لغريزته تجاه انتزاع حقه بيده ، يختزل في ذلك كل صور التحضر التي يسير الغرب نحوها بشغف في تلك المرحلة من اواخر القرن التاسع عشر و التي سرعان ما يتخلى عنها عندما تضطره الظروف لذلك ، هذا الإنتقال الحضاري يعززه النص من خلال قيمة شخصية بوب الإنكليزي ، القاتل المأجور المتأنق الذي يسافر عبر البلاد لحراسة خطوط السكة الحديدية رفقة كاتب سيرته السيد بوشامب ، بوب الانكليزي تغريه مكافأة العاهرات فيقدم الى البلدة باحثاً عنها ، في القطار يقدم النص من خلال بوب تعليقه على مرحلة التحول الحضاري العظيمة في البلاد من خلال صورته الأكثر نمطية لقطارٍ يتوقف قرب بلدة ( الصورة الأزلية لصعود الحضارة الأمريكية تلك الحقبة ) ، ينتقد بوب همجية هذه البلاد التي قتلت اثنين من رؤسائها خلال عشرين عاماً فقط ، يتباهى بالحكم الملكي بالمقارنة مع حكم الرؤساء لشعبٍ غوغائي ، يبدو بوب بحد ذاته تجسيداً لحضارةٍ افلت في تلك البلاد أمام رغبة الانعتاق و الانبعاث و التقدم في ركب الحضارة لسكان الأرض الجدد ، يبدو مثالاً للعهد القديم الذي أصبح أسطورةً تروى و تُدوّن من خلال كاتبٍ للسيرة الذاتية ، و في الجانب الآخر صار اللص الشهير رب أسرةٍ يعمل في مزرعة و صار الشريف منهمكاً في بناء منزله ، حياة الغرب القديمة تغيرت الآن ، لكنها لم تتغير للأبد خصوصاً و هي تمر بمرحلة التحول العظيمة هذه ، هي فقط بحاجةٍ لتُستفز لتخرج أسوأ و أعنف ما فيها ، و عندما يرفض بوب الانكليزي تسليم أسلحته لرجال ليتل بيل في بيغ ويسكي يلقّن ليتل بيل العجوز الانكليزي درساً عنيفاً في المعنى الجديد للحياة التي يرتأيها في بلدته ، و ما يفعله ليتل بيل هنا ببوب الانكليزي يماثل ما يفعله كلينت ايستوود من خلال الفيلم كله ، هو يجرد الرجل من أساطيره التي تناقلتها الألسن تماماً كما فعل ايستوود بصنف الويسترن كله في هذا الفيلم ، يقدم ليتل بيل الصورة التي لم يعرفها أحدٌ من رجاله عنه ، هم يشكّون بقدرته على ادارة البلدة ، يرون فيه ضعفاً مختفياً وراء ستار التحضر ، ذلك الستار يُهتك عندما يجرؤ بوب الانكليزي على تغيير المنظومة التي تسير عليه الحياة الجديدة ، هو يُلقّنه درساً عنيفاً – في مشهدٍ من كلاسيكيات هوليوود - و يسلبه لاحقاً - في حديثه مع كاتبه السيد بوشامب - الصورة البطولية التي يمثلها للزمان الماضي الذي ولى للأبد .

و بالرغم من كل هذه العظمة في النص لا يقف ايستوود عند ذلك في تحيته للصنف الذي أطلق نجوميته ، هو يغذي الصورة بالكثير مما يضمن خصوصيتها و اختلافها و اتساقها مع البعد الأسطوري للغرب المحتضِر على أبواب الحضارة القادمة ، يُصوِّر هذا الإحتضار بصرياً و يخبرنا بوضوح أننا لن نشاهد – بصرياً – فيلم ويسترن اعتيادي ، و الشعور بتشرب الفيلم بالكثير من طقوس أفلام النوار على حساب طقوس أفلام الويسترن هو شعورٌ لا يُخطيء ، رجلاه في ذلك هما مدير التصوير جاك إن غرين و مونتيره الأثير جول كوكس ، يجعلان من الصورة المقدّمة تتجاوز مفهوم التحية السينمائية لهذا الصنف الى نوعٍ من التجديد غير المعتاد ، خصوصاً من خلال استخدام السيلويت و اللقطات الشاعرية الواسعة ، و التصوير منخفض المستوى (تقريباً في مستوى الصدر) و الذي يخلق شعوراً غير تقليدي بالمراقبة الحذرة و الفضول و يجعل المشاهد أقرب الى ضيفٍ لدى شخصياته ، علاوةً طبعاً على مشاهد الذروة النوارية حيث الكثير من المطر و الظلام غير الإعتيادية اطلاقاً في مشاهد الذروة (النهارية الصحوة) في أفلام الويسترن ، مدعوماً بالطبع بعملٍ مونتاجيٍ ممتازٍ كالعادة من جول كوكس يولّف فيه محاور الحكاية الثلاثة بهدوءٍ تنتابه بعض اللحظات الاندفاعية أحياناً ، المؤثرة أحياناً أخرى ، وصولاً نحو نهايةٍ لا تنسى .

و بالطبع لا يمكن أن نمر على كلينت ايستوود و جين هاكمان مرور الكرام ، كلينت الممثل ينبعث في الدور الذي يجيء بعد سبعة أعوامٍ كاملة على أخر دور ويسترن قام به ، ما يفعله هنا ذكرني بما حدث بعد 16 عاماً مع ميكي رورك في The Wrestler عندما عاد المصارع السابق (راندي روبنسون) و الملاكم و الممثل المنطفىء (ميكي رورك) الى المجد من جديد عن طريق الحلبة ،هنا رجل الويسترن العظيم (كلينت إيستوود) و القاتل الذي لا يرحم (ويليام ماني) فعلا الشيء ذاته في الواقع ، عاد كلاهما من أجل غزوة ويسترن أخيرة ، هذا التوحد بين الشخصين يغني العمل كثيراً ، و أنت تتأمل الدور لا تستطيع مراوغة صورة كلينت إيستوود الشاب في كلاسيكيات الويسترن ، تشعر (أثناء ربطك ذلك بشخصية ويليام ماني) بأن كلينت ايستوود و ويليام ماني يفعلان الشيء ذاته ، يعودان بعد زمن لممارسة شيءٍ كانا عظيمين فيه سابقاً ، هذه الصورة أغنت حقيقية أداء كلينت ايستوود و واقعيته و منحته أخيراً و بجدارة ترشيحه الأول للأوسكار و في صنفٍ قدم فيه الكثير ، بالمقابل يجسّد جين هاكمان في ليتل بيل ميزاناً صعباً جداً بين صرامة رجل القانون و تأنّي الرجل المتحضر و عنف الخصم التقليدي في أفلام الويسترن ، يبدو عظيماً في أي وجهٍ لذلك المثلث ، و ورائهما طبعاً يقدم ريتشارد هاريس و مورغان فريمان أدائين ممتازين بالرغم من عدم استيعابي لفكرة وجود رجل كوبوي أسود في حقبةٍ كتلك .

بسبب أفلامٍ كهذه أعتبر أن ايستوود هو أعظم ممثلٍ تحول للإخراج ، نال هذا العمل العظيم قيمته بالتقادم بالنظر لفرادته و استثنائيته عن أي فيلم ويسترن آخر جاء قبله أو بعده ، و عندما وضعه AFI في المرتبة الثامنة و الستين لأعظم الأفلام في تاريخ هوليوود و في المرتبة الرابعة لأعظم أفلام الويسترن لم يكونوا يجاملونه ، هو حالةُ تجلٍ فريدة في الرغبة نحو كسر القالب التقليدي لفيلم الويسترن ، ليس على مستوى السرد و إنما على مستوى التلاعب بنوعية الشخصيات التي قدمها الصنف سابقاً و الوقوف بها على جانبي الخير و الشر بين الهلامية و الحدية من أجل نظرةٍ عميقةٍ في عالم الويسترن الذي ينهار على أعتاب الحضارة الجديدة ، و في قيمٍ غير واضحة المعالم لمفاهيم (الحق) و (العدالة) و (القانون) في غربٍ لا يرحم .

التقييم من 10 : 10


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters