•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

السبت، 16 مارس 2013

Grand Illusion

كتب : عماد العذري

بطولة : جون غابان ، مارسيل داليو ، إيريك فون ستروهيم
إخراج : جون رينوار

هناك فارقٌ شاسع بين أن تشاهد هذا الفيلم أول مرة ، و بين أن تعود لمشاهدته بعد سنوات تكون قد تشبّعت فيها بأعمالٍ تنتمي لمختلف الاتجاهات السينمائية و من مخرجين كثر لكلٍ منهم لغته السينمائية الخاصة التي لا تخطئها العين ، في المرة الأولى ستعتبره فيلماً ممتازاً خصوصاً عندما تضعه في الظروف الزمانية لإطلاقه ، في المرة الثانية ستتفهم جيداً لماذا قال أورسون ويلز ذات يوم : إذا كان أمامي أن أختار فيلماً واحداً في العالم لأنقذه من الطوفان ، فسأختار Grand Illusion !!

ربما يدرك أورسون ويلز ما يقوله جيداً ، و ربما يدرك مخرجٌ بعظمة وودي آلن جيداً ما يقوله عندما يعتبره أعظم فيلمٍ في تاريخ السينما ، برأيي المتواضع هذا الفيلم هو واحدٌ من أعظم ما عايشته الشاشة الكبيرة طوال تاريخها ، صرت أدرك ذلك مع أي فيلمٍ تزداد قيمته لدي بشكلٍ واضحٍ مع كل مشاهدة ، يحدث هذا مع Citizen Kane و M و The Third Man و The 400 Blows و غيرها ، هناك قفزٌ واضحٌ في تقييمي لهذا العمل يتوازى مع زيادة عدد مشاهداتي و اتساع تجربتي مع المدارس و المذاهب و الأساليب السينمائية كلها ، هذا المخزون لا أقول بأنه يزيد الفيلم قيمة بقدر ما هو يوضح أكثر لماذا كان و ما زال فيلماً عظيماً ، و لماذا يتدرج عبر المشاهدات من عملٍ ممتاز الى فيلمٍ عظيم إلى واحدٍ من أكثرها أهميةً و تأثيراً ، و حتى بتتالي تلك المشاهدات يبقى من الصعب تفسير عظمة الفيلم بشكلٍ دقيقٍ و واضح ، لكنها مع ذلك تبقى متوضّعةً في قدرة قصته و مضمونه و شكله على الصمود قيماً و مهماً و مؤثراً على مدى قرابة ثمانين عاماً.

يحكي جون رينوار – نجل الرسام الإنطباعي الشهير بيير أوغست رينوار – قصةً في اتون الحرب العالمية الأولى حيث طياران فرنسيان يسقطان بطيارتهما في الأراضي الألمانية : الكابتن الأرستقراطي دي بولدو و الملازم ماريشال مهندس سلاح الجو المنتمي للطبقة العاملة ، في ألمانيا يساقون الى مخيمٍ لأسرى الحرب حيث سرعان ما ينسجان علاقة صداقةٍ مع الأسرى الفرنسيين هناك بمن فيهم الملازم روزينتال المصرفي اليهودي الذي اشترى ذات يومٍ قلعةً تعود لملكية آل دي بولدو عندما ضاقت بهم الأحوال ، و يبدأ الجميع رحلة كفاحٍ للفرار من مصيرهم الأسود.

تصنيفياً ينتمي الفيلم الى ما يعرف بالـ Anti-War Movies و هو تنصيفٌ يجعله بالنسبة لي على رأس كل هذه النوعية من الأعمال ، لكن ما هو أهم من ذلك أن هذا الفيلم في الأساس هو فيلمٌ من أفلام الواقعية الشعرية في السينما الفرنسية و هذا بحد ذاته يبعث على الدهشة بالنظر لأن قيمة هذه الحركة ( بالرغم من أنها لم ترتقِ تماماً لمستوى الحركة ) قدمَت جوهر نظرتها السينمائية ثلاثينيات القرن الماضي من خلال أعمالٍ تناولت التباين الطبقي و السحق الإجتماعي عبر التكثيف على الحنين و الألم الداخلي و المرارة و خيبات الأمل و البحث عن الغنى الروحي و الإشباع العاطفي ، أمرٌ لمسناه في أفلام مخرجيها المهمين جون فيغو و جوليان دوفيفييه و مارسيل كارنيه و بالتأكيد جون رينوار ، هنا وظّف جون رينوار في عمله الإخراجي الحادي و العشرين روح الواقعية الشعرية في موضوعٍ يبدو بعيداً إلى حدٍ ما عن امكانية تناوله من خلالها ، صحيح أنه يقدم شخصياتٍ تبنى في الأساس وفقاً لروح الواقعية الشعرية حيث التباين الطبقي و الألم الداخلي و خيبة الأمل لكنه وضعها هنا في قالبٍ مختلفٍ لفيلم الـ Anti-War جعل من العمل ككل شيئاً مختلفاً تماماً عن كل ما شوهد خلال تلك الحقبة المبكرة من السينما الناطقة ، و هو ينجح جداً في ذلك و يحقق واحداً من أعظم انجازات الحركة كحال أقرانه L'Atalante لجون فيغو و Pépé le Moko لجوليان ديفوفييه و Daybreak لمارسيل كارنيه و بالطبع كلاسيكيته الثانية The Rules of The Game التي حققها بعد عامين.

في جوهر النص الذي كتبه الرجل رفقة تشارلز سباك يتناول شخصياتٍ تنتمي الى عوالم مختلفة و طبقاتٍ اجتماعيةٍ مختلفة تضطرها الظروف لتكون قريبةً جداً من بعضها ، يراقب من خلالها و من خلال علاقتها ببعضها – و كما يقول عنوان الفيلم – الوهم الكبير الذي تولده الحرب في النفوس و القناعة التي تجتاح من يسيّر تلك الحرب بأنها المخرج الوحيد لكل ما يجري ، هو لا يتناول – كحال أفلام الواقعية الشعرية – تلك الخلاصة بصورتها الجافة المجردة المباشرة ، و إنما يضعها في القالب الذي يجعلها تتضح و تزداد قيمةً بشكلٍ تدريجي مع تقدّم الحدث ، الكابتن دي بولدو رجلٌ أرستقراطي ما زال يتعامل مع الحياة بالنظرة المنتمية للقرن السابق حيث بقايا العائلات الاقطاعية و نوعية الحياة التي خلفوها ورائهم ، يُبقي حاجزاً مدروساً جداً بين علاقة الالتزام العسكري التي جمعته بهؤلاء الجنود و بين مرجعيته الثقافية و الإجتماعية و المادية ، لذلك هو ينسج بإتزان علاقةَ ودٍ مع القائد الألماني فون روفنستين : كلاهما من الطبقة الأرستقراطية ، و كلاهما يبدو على يقينٍ بأن صورة أوروبا سرعان ما ستتغير بعد الحرب على يد الطبقة العاملة الصاعدة بقوة ، يعرفون في قرارة أنفسهم بأن أوروبا الجديدة لن تقوم على القالب الذي وضعه اقطاعيوها و عائلاتها البرجوازية و رسخوا من خلاله فجوةً ازدادت اتساعاً بينهم و بين الطبقة العاملة ، تبدو أحاديثهم اختزالاً لأوروبا القديمة المحتضرة ، و هو يجسّد - من خلال ترسيخ هذه العلاقة بين الرجلين بعد العجز الذي تعرض له القائد الألماني و الذي حوّله من طيارٍ الى مدير سجنٍ و جمعه مجدداً بالكابتن دي بولدو – نظرةً في العلاقة التي تربط ذات النوعية من البشر و السلوك الانساني الواحد الذي يجمعهما على جانبي الصراع في أوروبا ، نفس العلاقة التي نراها أيضاً بين المساجين الفرنسيين و السجانين الألمان ، حيث يبدو الإنسان هو أساس كل شيءٍ هنا ، لا الحرب و لا النصر و لا التعصب للبلد و لا الاختلاف السياسي ، يرسم فيهم حجم الشرخ الكبير - و الأعمق – بين اوروبا القديمة التي ستنهار بعد عقدين على نهاية الحرب العالمية الأولى و تلك التي ستولد قريباً بنهاية الحرب العالمية الثانية ، يبدو من خلال قوة البناء الذي ينسجه بين شخصياته على طرفي الصراع أشبه بنظرةٍ تنبؤيةٍ بذلك.

علاوةً على ذلك يستمد النص بعضاً من قوته في التشويق الذي يبقي مشاهده على اتصالٍ بما يجري لشخصياته ، إثارة الفيلم هنا نابعةُ من رغبة التحرر من السجن ، يجعلها النص الرغبة الغريزية لدى الإنسان التي لا تحتاج لنقاشٍ أو تفسير و لا يخرجها من هذا الإطار ، لكنه يضرب عميقاً في صلب مضمونه من خلال الصورة التي يرسمها لكلا الطرفين كمساجين ، هو يجعل الفرنسيين و الألمان مساجين في الدور الذي الزمتهم اياه الحرب ، بل أن الطرف الفرنسي يبدو و كأنما يعامل معاملةً أفضل و يأكل في سجنه أفضل مما يأكل سجانوه ، و هذا يضرب في عمق صورة الوهم الكبير الذي يجسده من خلال الحرب و الطريقة الموحّدة التي تؤثر بها على كلا طرفي الصراع ، دون منتصرٍ أو مهزوم.

أعمق من كل ذلك تتجسد قيمة و عظمة العمل في تجاوزه لحواجز الزمان و البيئة و تقديمه رسالةً عالميةً عن الحرب و عن الوهم الذي تصنعه في النفوس على جميع الأصعدة ، و هو يحتفي من خلال ذلك بالإنسان في هذا الظرف الذي وضع فيه ، يبدو واحداً من أعمق الأعمال التي احتفت بالإنسان في ظرف الحرب دون عرقٍ أو دينٍ أو بلدٍ أو طبقةٍ اجتماعيةٍ أو توجهٍ سياسي و دون أن يوظف العاطفة في أيٍ من ذلك ( على الأقل قياساً لأفلام الواقعية الشعرية ) و الأجمل في كل هذا الإحتفاء - الذي يفرضه في تلك المكانة ضمن أعظم أعمال الـ Anti-War - أنه يقدم كل ذلك دون مشهدٍ حربيٍ واحد ، صحيح ان العائق المادي وقف أمام فكرة أن يقدم رينوار بعضاً منها ، لكن الرجل يتأقلم و يولّف ظروفه الإنتاجية لتحقيق أقصى ما يمكن في خدمة فكرته ، قد يبدو غريباً نوعاً ما في المشاهدة الأولى للفيلم النقل المفاجيء الذي يشعر به المشاهد بين الإستعداد للطلعة الجوية الافتتاحية و دعوة الألمان لأسراهم للغداء مباشرةً بعد ذلك المشهد ، رينوار يستثمر المساحة و الظروف و الإمكانيات المادية المتاحة له في صنع هجائيةٍ عظيمةٍ و عميقةٍ لأثر الحرب و تمهيداً لا يمكن انكار جموحه و عظمته لصورة أوروبا الجديدة ، و عندما يجمع بطليه الكابتن دي بولدو و القائد فون روفنستين على فراش الموت يبدو و كأنما يعزز هذا التصور من خلال الطبقة الارستقراطية الاقطاعية في المشهد ، و التي يقدمها بإحترام ، بكرامتها و بيروقراطيتها و ولائها الطبقي و احترامها للواجب و بالحاجز الذي تبقيه مع أقرانها ، و التي تجسد صورة الماضي الذي يزاح جانباً (متمثلاً بتضحية دي بولدو من أجل صديقيه) في سبيل صعود القوى الجديدة في أوروبا مستقبلية يرسمها و يختزلها من خلال صديقيه الهاربين : ماريشال ابن الطبقة العاملة و روزنتال المصرفي اليهودي الثري ، يبدو من ناحيةً و كأنما يحلم بصورة الإنسان الأوروبي الجديد التي يعززها من خلال التعاطف الذي نشاهده من قبل امرأة ألمانيةٍ مكلومةٍ - فقدت زوجها و ثلاثةً من اخوتها في الحرب - تجاه جنديين فرنسيين هاربين ، حيث تعاطف الإنسان الذي عاش ذات الظرف تجاه اخيه الإنسان الذي يمر به الآن ، و بالرغم من ان الامور تندفع في علاقة ماريشال بالمرأة لما هو اعقد من مجرد التعاطف ، إلا أنني أتقبل ذلك كنزوةٍ شخصين يجدان ملمحاً عاطفياً بعد سنواتٍ من سعير الحرب ، و هما هنا ينتميان للطبقة ذاتها أيضاً امعاناً في ازالة الحدود التي تخلقها الحرب ، و يبدو من ناحيةٍ أخرى صورةً تنبؤيةً أيضاً لأوروبا التي تعيش تحولها الأعظم حيث اللقطة الختامية للحدود المختفية تحت الثلج بين المانيا و سويسرا و الجنديان الهاربان اللذان يعبرانها نحو الحياة تحكي الحكاية كلها تقريباً ، من النادر جداً أن تجد فيلماً في تلك الخطوات المبكرة جداً للسينما الناطقة يعبّر بهذه العظمة و العمق عن رسالته بالغة الأثر و يتمكن من الحفاظ على قيمته حتى بعد مرور ثمانية عقودٍ على اطلاقه.

عندما أتأمل هذا الفيلم مرةً بعد اخرى اقف على حدود ادراك لماذا كان فيلماً عظيماً ، و كيف كان واحداً من الأفلام الاولى التي قدمت قصةً بهذا التأسيس و بهذا العمق و بهذه الرمزية و بهذا التكامل السينمائي أيضاً ، رينوار يوظف في خدمة نصه سلسلةً متتاليةً من اللقطات الطويلة التي تنتقل بحذرٍ شديد بين اللقطة الثابتة و تلك المتحركة ، و هو من خلال ذلك يسيطر بإحكامٍ على المكان خصوصاً من خلال الهدوء الشديد للكاميرا عندما تتحرك و المساحة الزمنية التي تترك لها في صنع علاقة المشاهد بالمكان ، هو يمنح الميزانسين (بكل مسرحيته) قيمةً رفيعةً جداً قبل سنواتٍ من استثماره كأداةٍ سينمائيةٍ فعالة ، و يجرد الصورة قليلاً من شاعريتها على الأقل قياساً لشاعرية الميزانسين التي شوهدت في أفلام مارسيل كارنيه مثلاً ، لذلك قلت في بداية حديثي بأن رينوار يسلك طريقاً صعباً في انتساب هذا الفيلم أساساً للواقعية الشعرية و الطريق الذي يسلكه يبدو و كأنما كان مؤثراً جداً على المخرجين من بعده خصوصاً على مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة ، ليس هذا فحسب بل ان احساس كاميرا رينوار الواضح بقيمة التوازن بين الضوء و الظلال يبدو شيئاً سابقاً لعصره و من الصعب ربما على أورسون ويلز أن ينكر حجم تأثره الواضح بهذه الجزئية عندما صنع تحفته العظيمة Citizen Kane بعد ذلك بأربعة أعوام.

أحياناً تراودني رغبةٌ غريبة بأن أعيش الفترة التي رافقت اطلاق عملٍ ما ، ربما لتقدير حجم الدهشة التي عاشها متلقوه في حينها ، كيف كان واحداً من الأفلام المبكرة جداً التي قدمت التنوع اللغوي حيث تتكلم الشخصيات الفرنسية و الألمانية و الإنجليزية كلٌ بلغتها الخاصة ، كيف رسّخ نجومية جون غابان كواحدٍ من أعظم رموز السينما الفرنسية في سائر عصورها ، و كيف أعاد المخرج إريك فون ستروهايم ( مخرج Greed ) بعد خيبة أمله الهوليوودية ممثلِاً هذه المرة في أوروبا ، و كيف استقبله مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي و منحه جائزةً خاصةً بالرغم من منعه لاحقاً في إيطاليا و ألمانيا ، و كيف أصبح أول فيلمٍ أجنبي يرشح لأوسكار أفضل فيلم ، ثم كيف جعله جوزيف غوبلز وزير الإعلام الهتلري هدفاً له بمجرد دخول باريس الأمر الذي جعل الفيلم يُفقد لسنواتٍ طوال قبل أن ينقذه مؤرشفٌ ألماني يدعى فرانك هانسل ، ثم كيف مضى يؤثر بعد ذلك في مسيرةٍ عددٍ من المخرجين العظام يتقدمهم أورسون ويلز و مخرجو الموجة الفرنسية الجديدة ، هذا بحد ذاته يبدو فيلماً بالنسبة لي ، رينوار صنع في Grand Illusion فيلماً صنع ليقول و يؤثر و يعيش للأبد.

التقييم من 10 : 10



0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters