•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الجمعة، 16 نوفمبر 2012

Skyfall

كتب : عماد العذري

بطولة : دانيال كريغ ، جودي دينش ، خافيير بارديم
إخراج : سام مينديس

عندما إنتهيت من مشاهدة هذا الفيلم وجدت نفسي أقرب إلى محققٍ تمكن أخيراً من ربط خيوط القضية ، و وجد حقيقة بسيطة و صارخةً ترتسم أمامه على الحائط : لماذا بقي ماضي بوند بعيداً عن جميع أفلام السلسلة على مدى نصف قرن ؟ لماذا لم يقترب 22 فيلماً سابقاً في السلسلة قدر أنملة من تاريخ بوند و نشأته ؟ لماذا انتظر الجميع خمسين عاماً كي يشاهدوا العميل البريطاني الغامض ذو الإسم الذي لطالما حسبناه حركياً يعود إلى أصوله و يستعيد بعضاً من ذاكرته في مغامرته التي لن ينساها في Skyfall ؟.

في الواقع أن هذه الإسئلة لا إجابة لها ، هذا لا يهم فهكذا شاءت الأقدار ، المهم فعلاً أن الفيلم الثالث و العشرون في السلسلة والذي يصدر في الذكرى الخمسين لفيلمها الأول Dr. No هو عملٌ سينمائيٌ مميزٌ على جميع الأصعدة ، بعد المشاهدة الأولى وجدت فيه الكثير من Casino Royale و هذا خفف قليلاً من احتفائي به و ان لم يمنعني من تقديره ، لكن عندما أعدت مشاهدة الفيلم يوم أمس أدركت فعلاً أن هذا الفيلم سيعيش أكثر من معظم أفلام السلسلة ، ذلك الشعور بأنك حصلت في الواقع على أكثر مما ينبغي الحصول عليه من فيلمٍ من سلسلة جيمس بوند ، الحبكة ، و البناء ، و الخصم ، و الجوانب التقنية ، و المذاق الذي يدوم ، كلها أمورٌ من الصعب أن نقول بأنها كانت إعتياديةً في هذا الفيلم على صعيد هذه السلسلة .

حبكة الفيلم بسيطة و لا تحمل أي نوعٍ من التعقيد ، مبنى الإستخبارات العسكرية البريطانية MI6 يتعرض لهجومٍ عنيف في قلب العاصمة لندن ، يتم إلقاء اللوم على M بالرغم من تاريخها المجيد في خدمة المؤسسة ، عميلها الأهم 007 يصبح حليفها الوحيد بالرغم من الصدمة الكبيرة التي ولدتها فيه في عمليته الأخيرة التي أدى قرارها فيها إلى إرساله إلى حتفه و وضع مجموعةٍ من أهم عملاء الوكالة رهن خطر الكشف عن هويتهم الأمر الذي أودى بحياة بعضهم ، نتيجةً لذلك تواجه M قرارات رئيسها الجديد غاريث مالوري ، و استجوابات الحكومة ، و على 007 وضع كل الخبرات التي اكتسبها في حياته المهنية من أجل تقديم خدمةٍ شخصيةٍ أخيرة للقائدة التي لطالما آمنت بقدراته .

نسبياً تبدو حبكة الفيلم أبسط من كثيرٍ من أفلام بوند ، و النص لا يعتمد عليها في الواقع ، هو يعتمد بشكلٍ أساسي على قيمة الشخوص التي يصنعها ، الشخصيات هي البطلة ، و هذا هو ما يجعل هذه القصة تبقى ، بنهاية الفيلم جلست أتأمل كيف بدأ الفيلم تقليدياً ثم كيف إنتهى مختلفاً ، لمحت حيلة النص ، هو يبدأ من المشترك المألوف بين جمهور السلسلة و الأفلام التي لطالما عشقوها ، يبدأ كما تبدأ كل أفلام السلسلة ، ثم يتدرج بذكاء ليصنع شيئاً مختلفاً لاحقاً ، عندما تأملت ذلك وجدت رائحة نصوص بيتر مورغان ، لكنني وجدت نصاً كتبه نيل بيرفيس و روبرت ويد كاتبا السلسلة الشهيرين إضافةً إلى السيناريست جون لوغان ، ثم اكتشفت لاحقاً بأن بيتر مورغان هو من كتب النص الأولي للعمل قبل أن تتوقف عملية إنتاجه بفعل مشكلة إفلاس شركة MGM ، أسلوب مورغان لا يمكن أن تخطئه العين ، النص يبدأ من متوالية أكشن لاهثة كالعادة ، هذه المرة في اسطنبول بتركيا ، حيث يطارد جيمس بوند عميلاً غامضاً يدعى باتريس بهدف الوصول إلى المعلومات المفقودة من شبكة الإستخبارات العسكرية البريطانية و التي تحوي قوائم بعملاء الوكالة في عددٍ من دول العالم ، لكن هذه المتوالية لا تنتهي بالطريقة المألوفة ، بل أنه من المثير أن نعلم أنها المرة الأولى في تاريخ السلسلة التي يعاني فيها جيمس بوند من جرحٍ ما نتيجة رصاصة !! ، النص سرعان ما يعمل بجد بعد هذه المتوالية على إشعارنا بأنه مختلف ، صحيح أنه يحتفظ بالكثير من تقاليد جيمس بوند ، خصوصاً عندما يقودنا معه في مغامرةٍ لاهثةٍ تتضمن اسطنبول و لندن و شنغهاي و ماكاو قبل الختام في اسكتلندا ، لكنه يصنع ذلك بطريقته ، يحاكي في تميزه هنا ما فعله Casino Royale قبل ستة أعوام ، لكنه يذهب أبعد على مستوى إعادة تقديم شخصية جيمس بوند بالصورة الأكثر إنسانية ، و ينجح أكثر من  سلفه في تجريدها من صورة السوبر هيرو النمطية التي رسختها أفلام السلسلة عقب حقبة شون كونري و على الأخص في حقبة بريس بروسنان ، يقدم النص أكبر مساحةٍ لماضي بوند في جميع أفلام السلسلة ، هذا إذا ما كانت أفلام السلسلة قد تطرقت لماضي بوند أساساً ، و يقدم كذلك أكبر حجمٍ لدور M بين سبعة أفلامٍ لعبت فيها الديم جودي دينش هذا الدور ، النص ينجح في تعويض ما يريد سلبه من الفيلم على مستوى المغامرة أو الأكشن من خلال إعطاء قيمةٍ أكبر و حقيقيةٍ أوضح لشخصياته الرئيسية ، وهنا سر تميزه ، تبدو – حسب ما أتذكر – الحالة الوحيدة التي يقاتل فيها بوند من أجل قضيةٍ عاطفيةٍ بالمجمل ، فقط بدافعٍ من التزامه تجاه رئيسته التي على وشك مغادرة مكتبها ، لكن النص لا يكتفي برسم التميز ضمن إطار العلاقة التي تحكم بوند و M التي يطاردها ماضيها في هذا الفيلم ، هو يغوص بشكلٍ صريح في تاريخ العميل 007 ، الطفل اليتيم الذي فقد والديه و كل شيءٍ تقريباً في قصرهم الوادع في Skyfall باسكتلندا ، الطفل اليتيم رباه صديقٌ لعائلته يدعى كينكيد ( يؤديه ألبرت فيني في ظهورٍ ملفت ) ، و كبر ليصبح بيتمه و وحدته و غضبه خياراً مثالياً ليجند للعمل في الإستخبارات العسكرية ، ذكاء النص على هذا الصعيد يكمن في عدم تقديمه الكثير عن ماضي بوند بطريقةٍ قد تفقده قيمته أو منطقيته ، هو يكتفي بتقديم ما يجب تقديمه فقط لا أكثر و لا أقل ، نشأة Skyfall بالنسبة لبوند هي نقطةٌ لا يحبها و لا يريد تذكرها ، هو يُنهي الحديث عند ذكر اسمها في اختبار التقييم النفسي ، و من الطبيعي لذكرى مرفوضةٍ كهذه بالنسبة لصاحبها ألا يتم الحديث عنها بإسهاب أو البوح بالكثير من تفاصيلها ، لذلك لا يسترسل النص كثيراً على هذا الصعيد بالرغم من أنه يقدم الكثير قياساً لما نعرفه أساساً عن بوند و هذا جزء من أهميته .

و لخصم بوند نصيبٌ أيضاً ، منذ اللحظة الأولى لظهور سيلفا و الذي يحدث بعد قرابة ساعة من العرض ، تبتسم و أنت تشاهد واحداً من أفضل مشاهد الظهور لخصم بوند على الإطلاق ، في جزيرته المعزولة ( لا أتذكر على وجه الدقة كم خصماً لبوند شاهدته يعيش في جزيرة معزولة ! ) ، يهبط سيلفا بالمصعد و يحكي قصة الفئران بينما هو يتقدم باتجاه بوند عبر الممر ( الذي صمم في الواقع ليناسب المدة الزمنية للقصة ) و عندما نواجهه ندرك تماماً أننا أمام شيءٍ مختلف ، سيلفا يختبر في بوند رغبة البقاء ، ذكرى التضحية السهلة التي حظي بها 007 مؤخراً من قبل M في مهمته الأخيرة ، يصوّره و إياه كفأرين ناجيين من المأساة التي حدثت لهما ، إما أن يأكلا بعضهما البعض ، أو يجدا ما يأكلانه ، يريده في صفه ، و يدرك بوند هنا أن خصمه مختلف ، و ربما هي واحدةٌ من الحالات النادرة أيضاً التي يسيّر خصم بوند فيها قصةٌ من الماضي ، و ليس الجنون المحض أو البريق أو رغبة التحدي أو حب السيطرة أو الرغبة بالمال ، فقط الماضي الشخصي هو من يحرك الخصم ، أتذكر أن هذا حدث مع العميل 006 في Goldeneye و لا أتذكر أنني شاهدته في فيلمٍ آخر في السلسلة ، هذا تميز ، سيلفا شخصيةٌ مميزةٌ على مستوى خصوم بوند ، دافعها الوحيد في كل ما يجري هو رغبة الإنتقام ، و الجميل أن النص لا ينحرف به عن هذه الرغبة من البداية و حتى النهاية ، حتى عندما نشعر بجنونها المحض أو ساديتها أو لمسة الحضور التي يمنحها لكل مواجهة يقوم بها ، يبقى احساسنا برغبته في الإنتقام حياً و يقظاً ، و هو أمرٌ ما كان ليتحقق تماماً لولا خافيير بارديم الذي يصنع من سيلفا واحداً من أفضل خصوم بوند في تاريخ السلسلة ، هناك ميزانٌ حساس لدى بارديم بين نبرة الجنون السادي و حقيقة الظلم و العذاب الذي تعرض له عندما سجنه الصينيون ذات يوم ، هو يقف على كفتي الميزان معاً ، و يمنح شخصيته قيمةُ أكبر مما كتبت عليه من خلال وجهه المعجون بالجنون و الإرتياب و رغبة الحصول على ما يريد مهما كلف الثمن ، مترجماً هذا إلى مزيجٍ مميز من هانيبال ليكتر و أنتون شيغور بالرغم من أنه لا يفوق أياً منهما شراً .

سام مينديس يضيف انجازاً سينمائياً مهماً يضاف إلى American Beauty و Road to Perdition و Revolutionary Road ، على الرغم من أنه بدى في الواقع اختياراً غريباً لإخراج فيلمٍ لبوند ، ربما هي المرة الأولى التي يتصدى فيها مخرجٌ أوسكاري لفيلمٍ في السلسلة ، على أرض الواقع يحقق الرجل واحداً من افضل أفلام بوند على الإطلاق ، يفتتح فيلمه بعشرين دقيقةً من الاكشن الخاضع لطقوس جيمس بوند ، بالرغم من أنه لا يحررها تماماً من سلسلة بورن التي بدى أثرها واضحاً في متواليات الأكشن في الأفلام الثلاثة الأخيرة لبوند ، نعم الإفتتاحية ليست مختلفة أو خارقة قياساً لما عودتنا عليها أفلام بوند ، يتفهم مينديس ما يريده النص في الافتتاحية في خلق المشترك مع الجمهور ، يسقط بوند برصاصة و تظهر أغنية أديل التي تشعرك كم كان اختيار النفاثة البريطانية موفقاً جداً لتقديم اغنية بوند الجديدة ، ربما هي المرة الأولى منذ زمن – و تحديداً منذ أغنية مادونا لفيلم Die Another Day – التي ستشعر فيها أن أغنية فيلم جيمس بوند ستعيش طويلاً ، أحسست هنا و أنا أشاهد بوند يسقط لأول مرة بأن لدى هذا النص و لدى هذا المخرج الشيء المميز الذي يريدون تقديمه ، و هم لا يخيبون آمالنا بهذا الخصوص ، صحيح أنهم يقدمون واحداً من أطول أفلام بوند في تاريخ السلسلة لكنك لن تشعر برغبةٍ في أن تتوقف أو تنتهي من مشاهدته ، على المخطط الإخراجي سار مينديس على التسلسل المعتاد لأفلام بوند : إفتتاحية من المطاردة اللاهثة ، عملية أو اثنتان في مناطق مختلفة من العالم ، رسالة الخصم التهديدية ، ثم ظهوره و ظهور نواياه ، ثم يتدخل بوند ليحسم الأمور ، نظرياً الأمور واضحة ، عملياً من النادر جداً أن تشاهد هذا التوازن الدقيق و الذي لا نكاد نشعر به بين تصميم شخصيات بوند و موجات الأكشن الكثيرة فيه ، هذا التوازن لطالما كان مختلاً لصالح الأكشن في أفلام السلسلة السابقة ، لكن مينديس يدرك تماماً أن صناعة لحظات أكشن غاية في الإبهار قد يسلب النص قيمته على مستوى تصميم شخصيات بوند ، لذلك يكون حذراً جداً في المزيج الذي يصنعه ، صحيح أن الفيلم ليس فتاكاً على مستوى مزج الدراما بالأكشن ، لكنه مميز جداً قياساً لنوعية الأفلام التي حصلنا عليها من سلسلة جيمس بوند ، لا يقدم مشاهد ذروةٍ ضخمة أو مبهرة لكنها كافيةٌ ، شيءٌ يضرب عرض الحائط بحقبة بوند بروسنان ، يؤكد مينديس هنا أن أفلام بوند يمكن أن تكون مبهرةً على الصعيد البصري بعيداً عن مشاهد الأكشن المسرفة ، الفيلم متعةٌ للبصر ، رجله الأول في ذلك هو العبقري روجر ديكنز ، ديكنز وراء الكاميرا عظيم فعلاً ، ينتقل من مجرد مدير تصوير لمشهد أكشن لاهث في افتتاحية العمل ، إلى شاعرٍ بصري ينسج قصيدةً فاتنةً في المواجهة على خلفية أضواء شانغهاي التي لا تغادر الذاكرة بسهولة ، قبل يخرج أجمل ما في True Grit و أبدع مافي The Assassination of Jesse James و أرعب ما في No Country for Old Men أثناء مشهد الذروة في Skyfall ، سيسعدني جداً أن اشاهد هذا الرجل يقطف ترشيحاً عاشراً للأوسكار بعيداً عن رغبتي السنوية في أن أراه يفوز بالجائزة أخيراً .

بالنتيجة أمتعني هذا الفيلم بالرغم من أنني لا أراه استثنائياً و بالرغم من بعض التفاصيل هنا و هناك خصوصاً على مستوى فتيات بوند - الفائضات هذه المرة - و على مستوى عادية حبكة المغامرة كركنٍ أساسيٍ في أفلام بوند ، أمتعني جداً رؤية ملامح دانيال كريغ المتعبة ، و عواطف جودي دينش المشوشة في مقدمة هذا العمل ، قلت عن دانيال كريغ من قبل بأنه أفضل بوند منذ شون كونري ، ليس فقط لجاذبيته و اختلاف ملامحه عن جميع ما اعتدنا ، ليس فقط لأنه من المثير أن تعلم أنه أدى مواجهة القطار في افتتاحية الفيلم دون دوبلير ، هذه أمورٌ تقنية ، لكنني أعتقد أن أهمية كريغ في أفلامه الثلاثة تكمن في أنه و للمرة الأولى منذ شون كونري يصبح لأداء الشخصية ذات أهمية جاذبيتها ، و هذا لم يحققه مور أو دالتن أو بروسنان ، الأمر ذاته ينطبق على جودي دينش ، التي ربما انتظرت طويلاً كي تُمنح شخصية M هذه المساحة لتقدم من خلالها هذه التوليفة من العاطفة الداخلية و الكبرياء و السطوة التي لا تجيدها إلا ممثلة كبيرة ، ربما لا يكون هذا أفضل أفلام بوند على اعتبار أن اختيار فيلمٍ واحدٍ بين 23 فيلماً تنتمي لحقبٍ مختلفة و شاهدناها على مدى سنوات قد يبدو أمراً صعباً ، لكن هذا الفيلم سيكون ضمن نخبة أفلام بوند حتماً عند الحديث عن التوازن الأفضل بين الدراما و الأكشن الذي حققته أفلام السلسلة .

التقييم من 10 : 8.5


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters