•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الجمعة، 28 سبتمبر 2012

Nausicaä of the Valley of the Wind

كتب : عماد العذري

بأصوات : أليسون لومان ، شيا ليبوف ، أوما ثيرمان ، باتريك ستيوارت
إخراج : هاياو ميازاكي

تقول الأسطورة أن مخرجاً يابانياً حمل فكرةً مختمرةً في مخيلته إلى أحد منتجي الأفلام الرسومية المعروفين في طوكيو ، كانت الأفكار رائدةً بحق ، تحمل عمقاً و فكراً و فناً حقيقياً لم تعتد أفلام الأنيمي تقديمه بهذه الصورة ، رفض المنتج تبني العمل لأنه لم يكن - على خلاف جميع أفلام الأنيمي في حينها – مستنداً إلى أصلٍ في المانغا ، تتابع الأسطورة بأن المخرج عاد إلى محرابه ، ليعمل على سلسلة مانغا تقدم فكرته تلك ، قام بتقديم تلك السلسلة المصورة للنشر على مدى سنوات ، فقط من أجل أن تصبح فكرته تلك مستندةً إلى أصلٍ في المانغا و تجد بالتالي الطريق نحو الشاشة الكبيرة ، ذلك الرجل كان هاياو ميازاكي !

على الرغم من أن هذه القصة تبدو أسطوريةً بحق حتى على مستوى حقيقيتها التي ما تزال غير مؤكدة تماماً بسبب أن آخرين يرون بأن العمل الهزلي هو من ولّد فكرة تحويله إلى عملٍ سينمائي و ليس العكس ، إلا أن الروايتين لا تنفيان العزيمة الجبارة التي إمتلكها هاياو ميازاكي مطلع الثمانينيات و هو يحاول الإنتقال من الطقوس التقليدية التي نشأت عليها أفلام الأنيمي منذ عقود و رفضت التخلي عنها ، صحيح أن الرجل قدّم أول أفلامه Lupin III: The Castle of Cagliostro  عام 1979 وفقاً لتلك الطقوس ، إلا أن طموحاته كانت أبعد من ذلك بكثير ، كان قد عمل من خلال سلسلته الشهيرة Future Boy Conan (التي قدّمت عربياً تحت إسم عدنان و لينا) على التأسيس لنوعٍ جديدٍ من أعمال الأنيمي التي تحفر أعمق في فنٍ سينمائيٍ حقيقي أكثر من وقوفها عند حدود التجسيد الكرتوني أو كرتنة الواقع ، كان طموحاً جداً على هذا الصعيد ، و عندما قدّم ميازاكي عمله السينمائي الثاني Nausicaa الذي أنتجه استناداً إلى سلسلة مانغا قام بنشرها (أو العكس لا فرق) أحدث ما يشبه الزلزال الحقيقي في عالم أفلام الأنيمي ، إلى الحد الذي ما زال يدفع الكثيرين لإعتبار هذا الفيلم العمل السينمائي الأول في مسيرة ميازاكي أو في فن ميازاكي ان شئنا الدقة ، علاوةً على اعتباره أيضاً الباكورة التمهيدية (غير الرسمية) لأعمال أحد أشهر صناع الأفلام الرسومية في العالم ، ستوديوهات غيبلي اليابانية .

يتمحور الفيلم حول نوسيكا (نعم ، ذات الإسم المذكور في الأوديسة) أميرة وادي الرياح ، احدى المناطق البشرية القليلة التي نجت من الكارثة المدمرة التي خلفتها (الأيام السبعة) حيث اقتتل بنو الإنسان مستخدمين أحدث تقنياتهم الحربية ، الأرض تخضع الآن لقانونٍ بيئي جديد حيث الأجواء المسمومة و الغابات المحتضرة التي تملأها حشراتُ عملاقة تدعى الأوم ، نوسيكا تعيش منعطفاً خطيراً في حياة بلدتها و حياة الكوكب عندما تقرر أميرة تولميكيا إيقاظ أحد المقاتلين العمالقة اللذين تسببوا ذات يومٍ في مأساة الأيام السبعة من أجل بسط نفوذها على الممالك الأخرى في سبيل توحيد الجهود في وجه تهديد الطبيعة القاتل .

باكراً جداً يرينا ميازاكي حجم التأثير القصصي لسلسلته الشهيرة Future Boy Conan على هذا العمل الذي يتناول أيضاً مرحلة ما بعد فناء الكوكب ، و إن كان تأثر الرجل يبدو أكثر وضوحاً بفيلم جورج ميلر الشهير Mad Max و إلى حدٍ ما بسلسلة جورج لوكاس Star Wars ، و مع ذلك إلا أن ميازاكي الذي يؤسس هنا لفنٍ جديد يحاول – و ينجح إلى حدٍ بعيد – في إرساء الخصوصية القصصية و البصرية التي ستطبع سائر أعماله الثمانية لاحقاً .

في هذا الفيلم يُبرز ميازاكي – للمرة الأولى - اختلافاً كبيراً و بيّناً عن أفلام الأنيمي التقليدية ، من خلال إبتعاده أولاً عن تقليدية السرد و تخفيفه الذي لا تخطئه العين لجرعة العنف (وأحياناً الجنس) التي لطالما طبعت أفلام الأنيمي قبله ، كما قدّم بشكلٍ ملفت الثيم البصري و القصصي الجديد لنوعٍ مختلفٍ من الفانتازيات ، ابتكرها ميازاكي و حقق بها بصمته الخاصة التي طبعت تسعةً من أعماله السينمائية العشرة ، و يبدو من الصعب جداً إنكار أن الفيلم يمتلك بالفعل ثراءاً بصرياً و سرداً خلاقاً لم تشهد له أفلام الأنيمي مثيلاً من قبل ، يجسّد بالفعل أول عملية انتقال حقيقية مكتملة الملامح بأفلام الأنيمي إلى صورة الفن الرسومي الحقيقي عوضاً عن الكرتونية التي لطالما طبعت الثيم البصري للافلام التي سبقته ، و بالتالي الإنتقال بأفلام الأنيمي (وربما سبقتها المسلسلات إلى ذلك) من تصويره كوسيلةٍ ترفيهية إلى تقديمه كفنٍ حقيقي مكتمل الملامح .

هذا الأمر يتجلى في البداية قصصياً ، و من الصعب ربما على المشاهد أن يتجاهل حقيقة أن هذا هو أكثر افلام ميازاكي خصوبة على المستوى الدرامي ، إلى الدرجة التي كان يمكن معها أن يصبح مسلسلاً تلفيزيونياً ، و لا أدري هل تعمّد الرجل فعل ذلك في بداية تقديمه لفنه الخاص ، خصوصاً و هو الذي إختزل 16 عدداً من أعداد سلسلته المصورة في أحداث هذا الفيلم التي لا تتجاوز ساعتين ، و مع أنني أرى هذه الجزئية المأخذ الحقيقي على العمل الذي يبدو غنياً جداً على مستوى تحولاته الدرامية إلى درجةٍ قد تصيب مشاهده بالتخمة ، إلا أنني لا أملك إلا أن أقدر رغبة ميازاكي في بداياته قبل ربع قرن تجسيد الفارق الحقيقي بين صورة أفلام الأنيمي التقليدية و بين الصورة التي يرتأيها الرجل في هذا الفن و المدى الذي يريد أن يذهب به إليه ، باكراً جداً قدّم ميازاكي صورة البطلة الأنثى التي لم تجرؤ على تقديمها أفلام الأنيمي قبله بهذه الصورة ، و هي الصورة التي رافقته لاحقاً في Princess Mononoke و Spirited Away ، كما خلق درجةً من الغنى على مستوى بناء شخصياته و تطور أحداثه بصورةٍ قل مثيلها حتى على مستوى أفلام ديزني حينها ، فذهب أبعد بكثير من مجرد تقديم الصراع التقليدي للخير و الشر الذي لطالما ابدعت في تقديمه أعمال الأنيمي السابقة ، إلى العمل بوضوح على ترسيخ العقدة السينمائية في أفلامه حيث جميع شخصياته الرئيسية بحاجة دائماً لما هو أكثر من مجرد تحديد موقعها من الخير و الشر ، ليس هذا فحسب بل أنه بزّ جميع أقرانه في صناعة الأفلام الرسومية في العالم منتصف الثمانينيات من خلال كم الخصوبة و الغنى التي خلقتها ألوانه ، و رسوماته ، و التصميم البصري لشخصياته لدرجةٍ ستثير معها مخلوقات الأوم هنا الهلع فعلاً لدى المشاهد ، بالإضافة إلى إصراره على تجنب البساطة البصرية ، و إسرافه في الإهتمام بالتفاصيل الدقيقة بصورةٍ لم تكن معهودةً إطلاقاً ليس على مستوى أفلام الأنيمي المعاصرة بل على مستوى أفلام ديزني أيضاً في تلك الحقبة ، و يكفي أن يلقي المرء نظرةً بسيطةً على عملي ديزني في تلك الحقبة The Black Cauldron و The Great Mouse Detective ليدرك حجم الهوة الشاسعة بصرياً و قصصياً بين فن ديزني في تلك الحقبة و الفن الجديد الذي يحاول أن يرسّخه هذا الياباني الأربعيني .

بالنسبة لي Nausicaa ليس مجرّد فيلمٍ سينمائي ، بل هو نقلةً نوعيةً كبرى في مسيرة الأفلام الرسومية تجاوز بكثير قيمته الفكرية كفيلمٍ عن الكراهية التي تحكم العالم و الدمار الذي ألحقته و تلحقه بالبيئة و المكان ، قبل ان تجني ثمار ما فعلته (وهو موضوعُ أعاد تناوله لاحقاً في Princess Mononoke) إلى قيمة أرفع بكثير على مستوى تطوير الثيم القصصي و البصري لأفلام الأنيمي ككل بصورةٍ لا يمكن مراوغة أثرها على مدى الربع قرن الماضية ، و بإستثناء الإرهاق الذي يعانيه المشاهد في تلقي كم التحولات الدرامية الكبير في هذا العمل الفني المختزل ، يبقى Nausicaa واحداً من افضل و أهم الأفلام الرسومية و أحد مفاخر ميازاكي التي لا تنسى .

التقييم من 10 : 9



0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters