•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

السبت، 28 فبراير 2009

The Devil's Backbone

كتب : عماد العذري

بطولة : فيديريكو لوبي , ماريساباريديز , إدواردونورييغا
إخراج : غاييرمو ديل تورو

عقب بضعة أعوام على صعود المخرج المكسيكي الشاب غاييرمو ديل تورو في عالم صناعة أفلام الرعب بفيلميه الشهيرين Chronos و Mimic جاء هذا الفيلم ليكمل رسم الصورة لنوعية المسيرة التي إختطها ديل تورو لنفسه : سينما الإثارة و الرعب التي تتحرى الخطوط الهلامية بين الحياة و الموت و أين يقف الخلود منهما .

يحكي علينا ديل تورو حكاية الدكتور كازاريس و حبيبته كارمن اللذين يديران مأوىً للأيتام في مكان ناءٍ من أسبانيا إبان الحرب الأهلية الأسبانية , بمساعدة خاسينتو متعهد النظافة الشاب و عشيقته كونشيتا المعلمة في المدرسة , كازاريس و كارمن يقفان في صف الجمهوريين في هذه الحرب , و يخبئان عدداً كبيراً من السبائك الذهبية لإستخدامها في دعم الجمهوريين , و بعد أيام على قصف قوات فرانكو للمدرسة بقذيفةٍ لم تنفجر يصل إلى الميتم الطفل كارلوس الذي يتغير بقدومه كل شيء عندما يبدأ برؤية شبح طفل يدعى سانتي يتجول في أرجاء المدرسة محاولاً إخباره بحقيقة ما حدث له ليلة سقوط القذيفة في المدرسة .

على الرغم من أهمية عمل كهذا و محوريته في مسيرة المخرج غاييرمو ديل تورو , و على الرغم من النهج الذي ينهجه في معالجة قضية ديل تورو الأم (الخلود و الفناء الإنسانيين) , إلا أن أهمية هذا الفيلم إزدادت مع تقادم الزمن بطريقة لا تجعلنا نأخذ في تقييمه مشاهدته فحسب , بقدر ماهو التمهيد الذي قدمه لتحفة غاييرمو ديل تورو Pan's Labyrinth , جزئية نلمسها منذ اللحظة الأولى لهذا العمل الذي يبدأ – كما Pan's Labyrinth - بصوت الراوي و يختم به , و ينطلق في رحلته من صورة طفل ينزف ليصل إلى سيارة تحمل رجلين و صبياً يقرأ في كتاب !! ، ذات الأجواء التي صنعها لاحقاً في متاهته : اليتم ، و الحرب الأهلية ، و الطبيب ، و الخدم ، و قسوة الإنسان التي لا حدود لها , Pan's Labyrinth إنطلق من هنا , و إستمر لاحقاً ليكتمل في فيلم آخر من إنتاج ديل تورو حمل إسم The Orphanage .

الفيلم يحمل إثارة ديل تورو المعهودة منذ اللحظة الأولى , حيث يعمد الرجل لمزج التأثير البصري المبكر مع جاذبية السرد القصصي التي إمتاز بها , مستغلاً الإبداع المتدفق بعنف من كاميرا غاييرمو نافارو (الرجل الذي قاده للأوسكار بعد خمسة أعوام) , نافارو عظيمٌ هنا , الطريقة التي يمزج بها النور و الظلام , أو تلك التي يتعامل بها مع الفلترة و الظلال عبقرية بحق , هناك حركات إلتفاف ذكية للغاية بكاميرا نافارو , الإلتفاف الذي يصنع حالةً خاصة من الترقب البصري غير المصطنع (يضاهي ذلك الذي شاهدناه على مائدة الطعام أو في مطاردة الغابات في Pan's Labyrinth) , هناك تباين لوني شديد الإنسيابية بين الفلتر الأزرق (المظلم) و الذهبي (المنير) بطريقة مجنونة و أحياناً في لقطة واحدة ! , تفاصيل بصرية صنعت رهبة حقيقية للمشاهد تجاه هذا الميتم مدعومة بصوت التنهد الذي يصدره الشبح سانتي و يملأ المكان .

بعد الإشباع البصري لعين المشاهد باللون الذهبي الذي يطغى على الإفتتاحية , يقدم ديل تورو أول مفاتيح الإثارة في قصته : طفل جديد في الميتم يرى شبح طفل بمجرد قدومه إليه , و رغم قناعة المشاهد التامة بأن هذا الشبح سيشكل المحور الأساسي للقصة إلا أن ديل تورو لا يغريه كثيراً في التوجه إلى تلك الناحية , ديل تورو يشعرك في بدايات فيلمه بأن لديه الكثير غير ذلك ليرويه , و بأن ذلك الشبح ما هو إلى جزء بسيط من هذه القصة , و في الوقت ذاته لا يتوقف ديل تورو ضمن عملية تأسيس أركان قصته و بناء شخصياته : الطبيب , كارمن , خاسينتو , عن التكثيف على محور الشبح الذي لا يمكن أن يمر مرور الكرام خصوصاً مع فيلم يفتتح بصوت الراوي على تساؤل جوهري و محوري فيه (ماهو الشبح ؟ إنه مأساة محكوم عليها أن تعاد مراراً و تكراراً) .

عندما يبدأ ديل تورو في تقديم شخصياته يدرك جيداً أن هذه الشخصيات لن تمتلك الجاذبية الكافية للتفوق على جاذبية الشبح الذي شاهدناه , لذلك يتعامل ديل تورو مع ذلك وفقاً لهذه القناعة و يحاول من خلالها أن يستمد جاذبية شخصياته بربطها و لو من بعيد بقصة الشبح , أمرٌ لا نشاهده خلال التأسيس المبكر لأحداث الفيلم لكنه يبدأ بالظهور بوضوح مع تقدم أحداثه , الطبيب كازاريس شخصية محترمة وقورة متعاونة , أمرٌ نستشفه من خلال الطريقة المختلفة التي تعامل بها مع وصول طفل جديد إلى الميتم و الطريقة التي تقرب بها من الولد و منحه الطمأنينة و الراحة في مكانٍ غريبٍ عليه , حبيبته كارمن صاحبة الميتم تقدم نموذجاً للمرأة التي شاهدت في حياتها الكثير و طحنتها عجلات الزمن بفعل والدٍ شيوعي مقاوم كرهت فيه مقاومته التي أبعدته عنها , و رغم ذلك لا تتورع هي عن دعم المقاومة و الإصطفاف وراء الجمهوريين و لو سراً خصوصاً أنها تملك السبائك الذهبية مصدر الدخل الحقيقي الأهم للجمهوريين في هذه الفترة , مع ذلك لا تتوقف كارمن عن دعوة كازاريس لمغادرة البلاد و الذهاب إلى الأرجنتين طالما إستمرت هذه الحرب , خاسينتو بالمقابل شاب يمتليء بالحيوية و الطيش و الطموح بالتخلص من المنطقة التي عاش فيها 15 عاماً و المغادرة إلى غرينادا مع عشيقته كونشيتا .

هذا البناء لشخصيات الفيلم يظل حتى فترة متقدمة من العمل غير موحدٍ بإتجاه رسم صورة واضحة للشبح , يحدث هذا خلال الربع الأول من العمل و الذي لا يبدو بالرغم من جاذبية الشبح جزءاً فارغاً أو عديم الفعالية من الفيلم , لكن الأمور تتغير بمجرد حدوث التحدي بين كارلوس و خصمه خايمي حول قدرة كارلوس على جلب الماء من المطبخ , تحدٍ يقود كارلوس لمعرفة الشبح بطريقة تمنح السرد القصصي للفيلم الدعم الذي يحتاجه في هذه المرحلة , كارلوس يعرف أخيراً نوايا الشبح الذي يراه (سيموت الكثير منكم) , و هي نوايا رغم قسوتها تكتسب إثارتها الحقيقية من فكرة كونها تبدو تلاعباً بخيالات المشاهد , فهذه العبارة القاسية التي تصدر من شبح شاحب تتطاير الدماء من رأسه تبدو مع تقدم الأحداث (تحذيراً) و ليست (وعيداً) , الشبح يبدو في جميع تصرفاته مسالماً و لا يبحث عن الشر , لكنه يحذر من حدوثه و إنتشاره في الميتم لأنه عايش نمو بذرته الأولى و ذهب ضحيةً لها .

بعد مواجهتين مهمتين لكارلوس مع خاسينتو نبدأ في رسم صورة مبكرة مبتورة المعالم عن منبع الشر في هذا الميتم , لكن هذه الجزئية لا تكثف كما يجب , و تهمل مؤقتاً لصالح جزئيةٍ أخرى لا تمنح هي الأخرى التكثيف الذي تستحقه : الغموض الذي يخفيه الدكتور كازاريس , الهموم التي يحملها , و الجاذبية الحزينة التي تحملها شخصيته , كازاريس يحاول أن يساعد كارلوس على نسيان قصة الشبح من خلال شربه للسائل المحيط بجنين العمود الفقري الشرير (و هي الأجنة التي لا يجب أن تولد كما يعرِّفها كازاريس) , و رغم أن الموضوع يبدو كذبة خالصة إلا أن كازاريس نفسه يشرب من هذا السائل , يرى فيه دواءً شافياً لمعالجة العجز الجنسي , الجزئية التي يخفيها و يحاول الإلتفاف عليها , الجزئية التي يبدو أن لا مهرب من مواجهتها خصوصاً عندما نعرف أن كارمن عشيقته تخونه مع خاسينتو الشاب الذي ربته في الميتم .

عقب مرحلةٍ تخديرية وضع فيها ديل تورو قصة الشبح في الهامش و نجح في ذلك فعلاً ، يدفع الرجل بحكايته نحو إثارتها الختامية ، يرفع إجرامية خاسينتو إلى ذروتها عندما ينتقم ممن طردوه بتفجير الميتم , حادثة تطيح بالكثير من الأطفال و تؤدي ضمن تداعياتها إلى وفاة كارمن متأثرةً بجراحها , الأمر الذي يجبر الطبيب كازاريس على شحذ بندقيته أخيراً ليصيد الشر الرابض على ميتمه , و عند النقطة المفصلية في الفيلم يسأل خايمي صديقه كارلوس الذي سيمسك بندقية أخرى لمساعدة الطبيب (هل أنت قادر على قتل أحد ؟) , التساؤل الذي يسرد من خلاله خايمي القصة الكاملة للشبح و كيف قُتل الفتى سانتي بقسوة ليلة سقوط القنبلة في باحة المدرسة (الشر الذي إنبثق تلك الليلة) , قتل سانتي أمام عيني خايمي دون أن يجرؤ على قتل الشر الواقف أمامه لأنه كان جباناً , الشر الذي سيعود بقوة أكبر من أجل أن يحصل على السبائك الذهبية , الشر الذي كان في اللحظة ذاتها يقتل عشيقته كونشيتا الشخص الوحيد الذي منح خايمي إهتماماً و بادله عاطفةً موؤدة , و رغم أن هذه المرحلة تبدو مهمة للغاية كونها تمنح الراحة الكافية للمشاهد المترقب لفهم كينونة الشبح , إلا أن الفيلم يرسخ خلالها الشعور السائد الذي يتملك المشاهد منذ البداية حول تلك الفراغات الصغيرة الموجودة هنا و هناك ، و التي لا تجعل كل مشهد فيه كاملاً .

مشاهد الذروة في الفيلم تبدو مهمةً جداً على صعيد العمق رغم الفجوة الواضحة التي يصنعها غياب شخصيات كازاريس و كارمن و كونشيتا في هذه المرحلة , الأولاد الذين سجنوا و جندوا لإيجاد مخبأ السبائك الذهبية يتخلصون ضمن هذه الظروف من خوفهم , يطردون مخاوفهم الداخلية و يسمحون لشجاعتهم بالظهور , تبدو شجاعتهم هنا هي النقيض البصري للشر , الشر الذي إنبثق و ترسخ بوجود الجبناء , كارلوس يقرر مواجهة خاسينتو , طرَد مخاوفه و بدى لأول مرة غير خائفٍ حتى من شبح سانتي الذي يعقد معه إتفاقاً لجلب خاسينتو إلى القبو حيث قتله و أغرقه في يومٍ ما , كارلوس و خايمي يستفزان خاسينتو لمطاردتهم إلى القبو , حيث يقتل الأولاد خاسينتو بشدة و يربطوه بسبائكه الذهبية التي تثقله و تجره نحوه القاع حيث ينتظره سانتي في خاتمة اغريقية الملامح تطغى على فجوات الفيلم الصغيرة في مرحلة الذروة .

شبحٌ آخر يولد في الفيلم , شبح الطبيب كازاريس , الشبح الذي يساند الأولاد ثم يودعهم بعدما حققوا إنتصارهم , و ظهوره رغم كونه يبدو خاتمةً تلخيصية لرسالة الفيلم , إلا أنه يصنع فجوةً أخرى فيه , منبعها نقص الإرتباط بين شخصيتي الشبحين في الفيلم و الذي يحاول ديل تورو من خلال خاتمته - التي يقدمها صوت الراوي - إيجاده , و هي علاقةٌ كانت لتمنح الفيلم غنىً لا يمكن تصوره لو كثفت كما يجب , لأن عملية ترسيخ مأساة تتكرر (وهي جزئية لم نشاهدها رغم حديث ديل تورو الختامي عنها) تبدو غذاءً حقيقياً و محبباً لسبر العلاقة التي ينشدها ديل تورو دوماً في أفلامه السابقة و اللاحقة بين الموت و الحياة , بين الخلود و الفناء , (ماهو الشبح ؟ إنه مأساة محكوم عليها أن تعاد مراراً و تكراراً .. لحظة ألم ربما .. شيءٌ ميت لا تزال أوجه الحياة باديةً عليه .. إنه عاطفةٌ تطفو في الزمان .. كصورةٍ مشوشة .. كحشرةٍ عالقةٍ في مادة الكهرمان الدبقة .. الشبح هو ما أنا عليه) , نظرة رثائية لرجل كان يحاول طوال حياته تحقيق كينونته , إنشاء الميتم , معالجة البشر , الوقوع في الحب , تذوق الشعر و كتابته , الإستماع للموسيقى , لكنه يعتبر نفسه ميتاً منذ زمن بسبب عجزه و قرفه من عيشته , محورٌ غنيٌ نعم , لكنه لا يبدو معمولاً بعناية , لا يرتبط الشبحان بفعالية لدعم ما يرمي اليه العمل , الفيلم يبدو و كأنما يصور الشبح الحقيقي على أنه رجل عجز عن تحقيق ما أراده , يرى ديل تورو بأن سانتي و رغم كونه في الواقع شبحاً حقق إنتقامه و وصل إلى ما كان يريد , بينما الطبيب رغم كونه حياً يرزق عجز عن فعل ذلك , لكن الصورة لا تقدم الشخصية بهذه الطريقة , فالمشاهد يشعر بأن الطبيب هو شخصية محترمة , ذات روح مليئة و ليست خاوية , و هي جزئية تتجلى بوضوح في سائر مفاصل الفيلم , الأمر الذي ولد الفجوةً الحقيقيةً الأهم بين النص و الصورة .

في العمل الذي أهداه إلى والده , يؤكد غاييرمو ديل تورو الآمال التي علقت عليه منذ فيلميه الأوليين , و يمنح للمشاهد ترسيخاً حقيقياً لطبيعة و نوعية الأعمال التي يمكنه أن ينتظرها منه , و رغم بعض الفراغات التي خلفها هنا يبدو الرجل ذكياً كفاية و جريئاً كفاية ليعيد سرد ذات المفاتيح عن الخوف و المصير و الموت و الخلود بثقلٍ أكبر عندما صفق له الجميع بعد خمسة أعوام في Pan's Labyrinth .

التقييم من 10 : 7.5

0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters